
هجرة الأجناس، الثورة الصامتة
cou_03_21_wide_angle_lenoir_web.jpg

تبدو التغييرات المؤثّرة على توزيع الأجناس أقلّ إثارة ومرئيّة من انحسار الأنهار الجليديّة أو ذوبان الجليد البحري رغم عواقبها المباشرة على نظامنا الغذائي وصحتنا.
جوناتهان لونوار
مكلّف بالبحث في علوم البيئة بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا (CNRS) ومقيم بجامعة بيكاردي جول فارن، فرنسا
هذه التغيّرات حدثت في جميع أنحاء العالم، وعلى كافّة دوائر العرض، دون علمنا في معظم الأحيان. ومع ذلك، فإنها تغيّر من مجالات انتشار الأجناس التي نخضع لها بشكل مباشر. فإعادة توزيع الكائنات الحيّة هي التجسيد الملموس للانزياح غير المرئي لخطوط التساوي الحراري، تلك الخطوط الوهمية من نفس درجات الحرارة، التي تتحرك نحو القطبين وقمم الجبال في شكل موجات، بدافع الاحتباس الحراري الشّامل. ويتطلّب إبراز هذه التغيّرات في توزيع الكائنات الحية توافر عدد كبير من المعطيات، التاريخية منها والحديثة العهد.
بالنسبة للأوساط البيئية الأرضية، أبرز العلماء الهجرات الموجّهة أساسًا نحو القطبين في مستوى دوائر العرض وباتّجاه قمم الجبال وفق خطوط الارتفاع، وذلك بالنّسبة للثدييّات، والطّيور، والبرمائيّات، وأسماك المياه العذبة، والحشرات، وحتى الكائنات الحيّة الأقلّ حركة مثل النّباتات. بيد أنّ تجزّؤ الموائل النّاجم عن الأنشطة البشرية يخفّض، إلى حدّ كبير، من نسق سرعة هجرة هذه الكائنات في السّهول.
وتُلاَحظ هذه الظّاهرة، بدرجة أقلّ، في المناطق الجبلية حيث يكون تأثير الأنشطة البشر محدودا، وخطوط متساويات الحرارة أكثر تقاربا. ففي فرنسا، هاجرت أنواع من النّباتات الغابيّة باتّباع خطوط الطّول، فيما بين 1971 و1993، بمعدّل سرعة 30 متر كلّ عشر سنوات، مدفوعة في ذلك بارتفاع درجات الحرارة وانزياح خطوط التّساوي الحراري، وبلغ العديد منها قمم عدّة جبال أوروبية. فعمليات الرّصد لــ 302 قمّة جبلية في أوروبا بيّنت أن عدد الأجناس النّباتية التي اجتاحت القمم يتزايد مع مرور الوقت، وأن هذا الاتّجاه في تزايد مطّرد في علاقة بتسارع الاحتباس الحراري. وإذا ما اعتبرنا الرّبح الحاصل من بلوغ هذه الأجناس من النباتات ٪87 من قمم الجبال الأوروبية التي شملتها الدّراسة، فإنّ المعدّل يكون قد تضاعف خمس مرّات فيما بين 2007 و2016 قياسا بالفترة الفاصلة بين 1957 و1966.
تعايش جديد للأجناس
تُفسَّرُ هذه الظواهر بالتّعايش الجديد بين الأجناس المستوطنة في بعض القمم وأنواع أخرى أكثر قدرة على المنافسة والتي تنبت في الطوابق السّفلية. وقد تبدو الزيادة في التنوّع البيولوجي في الجزء العلوي من الجبال الأوروبية بمثابة الخبر السارّ، مبدئيّا. ومع ذلك، يبقى الحذر قائما من المنافسة الممكنة بين الأجناس المجتاحة والأجناس المتوطنة وتبعاتها على هذه الأخيرة باختفاء البعض منها. ولقد لوحظت بالفعل ظاهرة الانقراض هذه في جبال البيرو حيث لم يمكن العثور في سنة 2017 على 8 من أصل 16 جنس من الطيور التي تعيش على قمم الجبال التي يفوق علوّها 1300 متر فوق مستوى سطح البحر بعد أن تم رصدها سنة 1985.
في الوسط البحري، تكون معظم الكائنات شديدة الحساسيّة لارتفاع الحرارة. لذلك، فإن انتقال الأجناس إلى القطبين أسرع وأهمّ من انتقالها فوق اليابسة. وقد بلغ معدّل سرعة هجرة الكائنات البحرية نحو القطبين حوالي 60 كم كلّ عشر سنوات، أي بسرعة تفوق 5 إلى 6 مرّات سرعة الكائنات الحيّة الأرضيّة.
وأظهرت بعض الدّراسات وجود هجرات عموديّة لعدّة أنواع من الأسماك البحرية باتّجاه المياه العميقة لتفادي ارتفاع درجات حرارة المياه السّطحيّة. ففي بحر الشّمال، على سبيل المثال، هاجرت الأسماك من المنطقة القريبة من قاع البحر نحو الأعماق بمعدّل سرعة بلغ أربعة أمتار في العشر سنوات من الفترة الفاصلة بين 1980 و2004. هذه التحرّكات السّريعة للتنوّع البيولوجي البحري تجعل من البحار والمحيطات أفضل مرصد لتداعيات الاحتباس الحراري على إعادة توزيع الكائنات الحيّة.
ولأنّ الإنسان يعتمد، بدوره، على التنوّع البيولوجي في تغذيته، وصحته، ورفاهه، وأنشطته الإنتاجية، والترفيهية، وإثراء رصيده الثقافي، فإن إعادة التوزيع الشّامل لهذا التنوّع البيولوجي سيكون لها تأثير على كافّة هذه الجوانب، حيث أنّ تنقّل أنواع الموارد السّمكيّة (المرتبطة بالصيد) له تأثير مباشر على غذاء الإنسان. ولعلّ المثال الأفضل هو هجرة قطيع الإسقُمري باتّجاه الشّمال في منطقة شمال الأطلسي والتي أثارت، منذ 2010، نزاعات اقتصادية وجيوسياسية كبيرة بين مختلف البلدان الأوروبية التي تُمارس الصّيد في المنطقة.
التنوّع البيولوجي مصدر نزاع بين الدّول
حيث أن التنوّع البيولوجي لا يعرف الحدود، فمن المتوقّع زيادة عدد النّزاعات والتوتّرات بين البلدان المجاورة التي لها علاقة بتنقّل الأجناس التّجارية من منطقة اقتصادية إلى أخرى. وستكون إعادة التّوزيع الجغرافي لجميع السّلع والخدمات التي يوفّرها التنوّع البيولوجي موضوع جدل وإعادة نظر بالكامل على النّطاق العالمي. والشّيء نفسه ينطبق على إعادة توزيع ناقلات مسبّبات الأمراض، وبالتالي الأمراض ذاتها. فمع الاحتباس الحراري، ظهرت ناقلات جديدة للأمراض (البعوض والقراد) عند دوائر العرض وخطوط الارتفاع، وهي مناطق كانت سابقا خالية من هذه الأجناس وأصبحت حقيقة ملموسة تستوجب التحسّب للتكاليف الصحيّة والاجتماعية والاقتصادية المترتّبة عنها.
وعلى صعيد آخر، يعاني سكّان المناطق الجبليّة، بكلّ من أمريكا اللاّتينية وشرق إفريقيا، من الملاريا أكثر من أيّ وقت مضى. فارتفاع درجات الحرارة يساعد على هجرة البعوض الحامل للطفيليّات المتسبّبة في المرض نحو المرتفعات. وفي شمال أوروبا، أصبح الصّيف أكثر جفافًا، والشّتاء أكثر اعتدالا، وهو ما يزيد من وفرة الثدييات المجهرية وتوزيعها، مثل القوارض الحاملة الرئيسية لقراد البود الخروعي، المتسبب في بكتيريا البوريليا برغدورفيرية المُؤدّية إلى الإصابة بداء لايم.
وعلاوة على هذه التأثيرات المباشرة على رفاه الإنسان، فإن إعادة توزيع الكائنات الحية يؤثّر أيضًا، على نحو غير مباشر، على ديناميكية الاحتباس الحراري ذاتها. وبالتالي، فإن زحف الأعشاب على التُّندرا، وزحف الغابة الثلجية نحو القطب الشمالي يمثّلان عوامل تسهم، بنفس المستوى وذوبان طبقة الجليد البحري، في الخفض من ظاهرة البياض (كقوة عاكسة) في القطب الشمالي والتّسريع في الاحترار.
التفاعلات مع الاحتباس الحراري
إنّ إعادة توزيع الكائنات الحية ليست بالضرورة متزامنة مع الاحتباس الحراري. فعموما، يبلغ معدّل سرعة الانتقال نحو قمم الجبال نصف السّرعة تقريبا (18 متر في العشرية) التي انتقلت بها خطوط التّساوي الحراري في اتّجاه الارتفاع خلال نفس الفترة (معدّل 40 متر في العشرية). ففي مثال الأنواع النّباتية الغابيّة، يكون التّوالد عن طريق التّناثر هو الوسيلة الوحيدة لتنقّل الجيل الموالي إلى مسافة أبعد في شكل بذور. ولا تنبت سوى البذور التي تم نقلها في الظّروف المناخيّة الملائمة فتنشئ مجموعة جديدة خارج النّطاق الأصلي للتوزيع. هذا وتُبدي الأجناس المُتّسمة بحياة طويلة وبطيئة، مثل الأشجار، تأخّرا في الاستجابة. ويعني هذا التّأخير أنّه، حتّى لو توقف الاحترار اليوم، فإنّ التغيّرات سوف تتواصل.
إن إعادة توزيع الكائنات الحيّة كنتيجة للاحتباس الحراري تطرح تحدّيات جديدة. وبالتالي، فمن العاجل تكثيف الجهود الرّامية إلى دعم البحوث لتحسين فهمنا لعواقب هذه الظّاهرة، وأخذها بعين الاعتبار ضمن القرارات السياسيّة والاقتصاديّة. ووحدها الحوكمة الدّولية، التي تُدمج في سياساتها هذه الديناميكية الشّاملة، قادرة على التّرفيع من فرص الحدّ من الآثار السلبية المحتملة، والتي قد تجعل من إعادة توزيع الكائنات الحية تهديدا لرفاهنا.
مطالعات ذات صلة
الاندفاع نحو الذّهب الأزرق، رسالة اليونسكو، يناير- مارس 2021
المناخ والعدالة الاجتماعية، رسالة اليونسكو، يوليو- سبتمبر 2019
الأعباء الثّقيلة للمحيط التكنولوجي، الرسالة الجديدة، أبريل- يونيو 2018
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.
تابع رسالة اليونسكو على تويتر، فيسبوك، أنستغرام