بناء السلام في عقول الرجال والنساء

مقابلة

أوليفات أوتال: ​​"تاريخ الأشخاص السّود في أوروبا مُصاب بفقدان جزئي للذّاكرة"

cou_03_21_our_guest_01_web.jpg

مظاهرة لحركة "بلاك لايفز ماتر" (حياة السّود مهمّة) أمام سفارة الولايات المتّحدة بلندن في ماي 2020.

إنّ وجود أشخاص مُنحدرين من أصل إفريقي في أوروبا غالبا ما يُتناول من منظور العبودية والاستعمار، فيحجب بذلك تاريخا مشتركا أقدم بكثير. 

أجرت المقابلة أنياس باردون

اليونسكو

يحمل كتابكِ عنوان " الأفارقة الأوروبيون، تاريخٌ غير مروي" والحال أنّه لم تَجر العادة على تسمية الأشخاص المُنحدرين من إفريقيا، والذين يعيشون في أوروبا، بالأفارقة الأوروبيين. فلماذا اخترتِ هذه العبارة؟ 

عبارة "إفريقي أوروبي" أو "أفرو-أوروبي" هي فعلا عبارة قليلة الاستعمال في أوروبا، في حين أن ما يعادلها – أفريقي-أمريكي - شائع في الضفّة الأخرى من المحيط الأطلسي. لقد استعملتُها بشيء من الاستفزاز، ولكن أيضًا وقبل كلّ شيء، لأُبيّن أن الأشخاص المنحدرين من الهجرة الإفريقية لديهم هويّة متعدّدة.

فالأفرو-أمريكيون تبنّوا هذا التّعبير وامتلكوه، لكن الأفرو-أوروبيين بقوا أكثر تردّدًا في المطالبة به بسبب السّياق التاريخي، لأنّه في أوروبا، هناك توجّه في نَسْبِهِم إلى أصولهم الإفريقية حتى إن كانوا مولودين على أرض أوروبية ويحملون جنسيّة البلد الذي نشأوا فيه. ومع ذلك، أعتقد أن لهذه التّسمية ميزة الإفصاح عن أصول الأشخاص من أصل أفريقي وعن تنوّع خبراتهم وبيئاتهم. 

يُعتقد، عموما، أنّ تاريخ الأشخاص السّود في أوروبا يبدأ مع القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولكنّك بيّنتِ أنّ وجودهم سابقٌ بكثير لذلك التّاريخ.

عندما نتعرّض إلى هجرة الأشخاص القادمين من إفريقيا إلى أوروبا، نميل عادة إلى الاعتقاد بأنها تعود إلى عهد تجارة العبيد. لكنّها في الحقيقة، أقدم بكثير. فمنذ العصور القديمة، سُجّل وجود أشخاص في الإمبراطورية الرومانية قادمين من القارّة الأفريقية. وفي غياب الإحصائيات، يصعب اليوم تقدير عددهم. لكن ما نعرفه هو أن عددا منهم أصبحوا شخصيات مرموقة، مثل الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس، المولود فيما يُعرف الآن بليبيا، أو عدد من المفكّرين من أمثال القدّيس أوغسطينوس أو أبوليوس، القادمَيْن من شمال إفريقيا.

ولقد استمرّ هذا الحضور على مرّ القرون. ففريدريك الثاني، ملك صقليّة (وإمبراطور الإمبراطورية الرّومانية الجرمانية المقدّسة منذ سنة 1220) قد استقبل أفارقة في بلاطه ووظّف بعضهم في خدمته، حتى أنّه جعل من أحدهم، جان "الموريسكي"، حاجبه الشّخصي. وإلى غاية نهاية القرن الخامس عشر، حكم المسلمون العرب من شمال أفريقيا الجزء الأكبر من شبه الجزيرة الأيبيرية. ومنذ منتصف القرن الخامس عشر، بدأت العائلات الثريّة، من وسط إيطاليا وشمالها، في توظيف خدمٍ قادمين من إفريقيا. وتشهد على ذلك العديد من لوحات عصر النّهضة.

هناك إذن تاريخ مشترك بين إفريقيا وأوروبا أقدم بكثير وأكثر ثراءً مما نتخيّل. إلّا أن جزءًا من هذا التّاريخ لم يُعتبر جديرا بأن يُدرّس في المؤسّسات التّربوية. لقد تعوّدنا على مقاربة التّاريخ من خلال عدسة تجارة العبيد التي سادت، نوعا ما، كفترة تاريخية وحجبت ما سبقها. هكذا، أصيب، إذن، التاريخ السّابق بفقدان جزئي للذّاكرة.

كيف تطوّرت على مرّ القرون النّظرة إلى الأشخاص الذين قدِموا من أفريقيا في أوروبا؟

كانت الأحكام المسبقة ضدّ الأفارقة، في علاقة باللّون، موجودة دون شكّ قبل القرن السّابع عشر، إلا أن الفجوة بين المسيحيين والمسلمين كانت، بين العصور الوسطى وعصر النّهضة، طاغية على معظم الاعتبارات الأخرى. وعلى صعيد آخر، كانت هذه الأحكام المُسبقة تُمارَس بشراسة ضد مجموعات أخرى من ذوي البشرة البيضاء مثل الأيرلنديين، الذين يعتبرهم الإنجليز متوّحشين.

نقطة التحوّل الحقيقية تمثّلت في تطوّر تجارة العبيد، عندما انخرط البرتغاليون، والفرنسيون، والإنجليز، والهولنديون، والإسبان، والسويديّون، وتجّار البندقية، في هذا السّباق المحموم من أجل الرّبح. عندها، طوّر الأوروبيون نظريّات حول الدّونِيّة العرقيّة للأفارقة لتبرير تجارة العبيد. وهو ما أدّى إلى تغيير النّظرة إلى الأفارقة بشكل دائم بعد سنة 1700.

ظهرت نظريّاتٌ حول الدّونِيّة العرقيّة لتبرير تجارة العبيد

تلك هي الفترة التي تمّ فيها تجريد السّود من إنسانيّتهم ​​واعتبارهم سِلعًا. وهذا مُوثّق تماما من وجهة النّظر التاريخية. ولدينا العديد من دفاتر الوقائع والسّجلاّت ودفاتر الحسابات التي تشهد على ذلك. ومنذ ذلك الحين، أصبح يُنظر إلى الهويّات الأوروبيّة على أنّها الأفضل بسبب قوّتها الاقتصادية. وفي الواقع، بقدر ما غيّرت تجارة العبيد النّظرة، كيّفت أيضًا الهويات ورسّبتها بتعميق الفصل بين البيض والسّود.

هل يعمل المؤرّخون اليوم على تحيين فصول لم يتم استكشافها إلى حدّ الآن، جزئيا أو كليّا، في علاقة بتاريخ الأشخاص الذين قدِموا من إفريقيا إلى أوروبا؟

نعم، وأنا جدّ متفائلة بخصوص هذا الموضوع. فمجرّد توصّلي إلى نشر كتابي وحصوله على كل هذا الصّدى هو، في حدّ ذاته، مؤشّر على ذلك. إنّها فترة مثيرة للغاية عندما تكون مؤرِّخًا لأنك تشعر أنّ الخطوط تتحرّك، وأن هناك تفكير بصدد الإنجاز في اتّجاه تسليط نظرة مغايرة على هذا الجانب من التّاريخ. هذا، وقد بدأ هذا التّفكير يجد ترجمته في مجال التّعليم. 

فحاليًا، في المملكة المتحدة، نحن بصدد القيام بمحاولة بإدراج ما نسمّيه "تاريخ السّود" في البرنامج الدّراسي. وهو، حاليا، ليس سوى مادّة اختيارية. أما في بلاد الغال، حيث أُقيم، فقد قرَّرت، بعدُ، حكومة المجلس الغالي إدراج هذا التاريخ ضمن البرامج الدّراسية. إنّها خطوة مهمّة. وفي فرنسا، ومنذ قانون توبيرا الذي أدخل تدريس تجارة العبيد في برامج المدارس الابتدائية سنة 2002، تم بالفعل تدريس جزءٍ من هذا التّاريخ. فالوضع يختلف كثيرا من بلد إلى آخر، وما زال هناك عمل كبير يتعيّن القيام به، لكن الوضع يتطوّر بشكل إيجابي. في هذه المرحلة، أعتقد أنّه من المفيد تزويد المعلّمين ببعض الأدوات لجعلهم يشعرون بالرّاحة عند تدريس تلك الفصول من تاريخنا، والتي لا تقتصر على تاريخ العبوديّة وإلغائها أو على تاريخ الهجرات، بل تشكّل مجال دراسة أوسع بكثير. 

كيف تطوّرت خلال السنوات الأخيرة المقاربات التي تعتمد الذاكرة بخصوص تجارة العبيد في أوروبا؟

ما زالت ذكرى العبوديّة تصطدم بمقاومات شديدة حيث نشاهد تأرجحا بين تطرّفين من قِبل الدّول. فإمّا الإمعان في عقلية الضحيّة وإمّا فقدان الذّاكرة. وتعود أسباب مقاومة الدّول إلى أن هذه الذّاكرة تدعو إلى إعادة النّظر في سرديّتها الوطنية. وحتى إن احتفلت بشخصيّات منحدرة من القارة الأفريقية وسبق لها أن أثّرت في التّاريخ، فلا يعني ذلك اعترافا بالدّور الذي يلعبه الأفرو-أوروبيون حاليّا، في الحياة اليوميّة. لذا، فأنا غير مرتاحة للمقاربة التي تعتمد تقديس البعض على حساب الآخرين، مع إقراري بأن ذلك أفضل، دون شكّ، من الفقدان التامّ للذّاكرة. من ناحية أخرى، عندما نحتفل بإلغاء العبودية، فإنّنا، نطمس، عمومًا الجانب التاريخي المتعلّق بالمقاومة التي أبداها السّود، والحال أن تلك المقاومة حدثت في جنوب أوروبا، خاصة، حيث شكّلت الجمعيات الدّينية للعبيد، التي تأسّست في البداية لمناقشة المسائل الدينية، اعتبارًا من القرن الخامس عشر أماكن لتبادل الآراء ومكافحة الاستعباد المسلّط على السّود من أسيادهم البيض، كما حصل مع الجمعية الدينية نوسا سنهورا دو هومنز بريتوس Nossa Senhora do Rosario dos Homens Pretos (سيدة الوردية للأشخاص السود) التي تأسّست في لشبونة سنة 1470. كما أنّنا غالبا ما ننسى دور الأشخاص الذين ناضلوا إلى جانب دعاة إلغاء العبوديّة. وبالتاّلي، فإنّ الواقع التاّريخي أكثر تعقيدًا من الواقع الذي يتم تقديمه عموما.

ما هي الصّلة بين هذا التّاريخ والعنف المُسلّط من قبل الشّرطة، خاصّة، ضدّ السّود؟

تعود جذور التّمييز والعنف البوليسي إلى التّاريخ الاستعماري. فالطّريقة التي تمّ التّعامل بها مع الأجساد السّوداء لها علاقة بهذا التاريخ. وقد وُلدت حركة "بلاك لايفز ماتر" (حياة السّود مهمّة) من الغضب ومن الألم أيضًا والشعور بالعجز تّجاه هذا التّمييز. ولئن وجدت صدًى لها في أوروبا فلأنّ هذا العنف البوليسي ليس سوى رجعُ صدى للتمييز المُسلّط على السكّان السود.

في هذا الصّدد، ألاحظ أن جيل أبنائي له مقاربة مختلفة تمامًا عن مقاربة الأجيال السّابقة. فهو جيل لا يخشى تحدّي النظام أو معارضة السّلطة القائمة.

تعود جذور التّمييز والعنف البوليسي إلى التّاريخ الاستعماري

عندما كنت طالبة، كنّا نعتقد أن العمل الجادّ لتحقيق النّجاح سيكون كافيًا لإخماد أصوات العنصريّين. لكن اتّضح أنّ ذلك لا يكفي. فشبّان اليوم لم يعودوا يتردّدون في التّنديد بصوت عالٍ بالعنصرية والتّمييز الّذين يتعرضون لهما. كما أنّهم يتمتّعون بأكثر حريّة ويجدون راحة أكبر في انتمائهم إلى هويّات متعدّدة، تلك المتحصّلين عليها من آبائهم، ومن وسطهم الأصلي، ومن المجتمع الذي نشأوا فيه.

أوليفات أوتال

أوليفات أوتال، مؤلّفة "أفارقة أوروبيون، تاريخ غير مروي" African Europeans, An Untold History، تشغل خطّة أستاذة التاريخ الاستعماري في جامعة بريستول بالمملكة المتحدة. وهي من أصل كاميروني، وأوّل امرأة سوداء تشغل كرسيًّا للتّاريخ في المملكة المتّحدة.

مطالعات ذات صلة

العنصرية: مواجهة اللاّمفكّر فيه من قضايانا، رسالة اليونسكو، أكتوبر - ديسمبر2020

تجارة العبيد: رحلة ثقافية غريبة، رسالة اليونسكو، ديسمبر 2004

الرّسالة ضدّ العنصرية، مختارات من أعداد ومقالات مخصصة لهذا الموضوع 

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.

تابع  رسالة اليونسكو على تويتر، فيسبوك، أنستغرام