بناء السلام في عقول الرجال والنساء

أفكار

اختيار برامجنا التلفزية المفضّلة يرشدنا عن أنفسنا

cou_03_21_ideas_01_web.jpg

رسوم © سارّة بويو Sarah Bouillaud/ هانس لوكاتش Hans Lucas لفائدة رسالة اليونسكو.

إن ميلنا إلى التّماهي مع الشخصيات الخيالية يعتمد على طبيعة شخصياتنا. وقد تكون ظاهرة التّماهي هذه مفيدة عندما تسمح بتعديل التمثّلات التي نحملها عن الفئات المهمشة.

دارا غرينوود

أستاذة مساعدة في علم النفس بكوليج فاسار، نيويورك (الولايات المتحدة) 

في العام الماضي، كان التلفزيون بمثابة الملاذ للكثيرين منّا أثناء الأزمة الصحية المرتبطة بوباء كوفيد -19. فاستهلاكنا لوسائل الإعلام يعكس، في مستوى بدائي، رغبتنا في التّرفيه أو الهروب، ولو لفترة وجيزة، من التوتّر والملل أو الشعور بالوحدة.

لكن علاوة على قدرتها على انتزاعنا من واقعنا اليومي، فإن البرامج والشخصيات التي نقضّي معها الوقت تُرشدنا أيضا عن ذواتنا، إذ تبيّن الدّراسات أن أذواقنا فيما يخصّ البرامج والشخصيات الخيالية غالبًا ما تعكس جوانب أساسية من شخصيتنا، وتُحدّد اختيارنا للبرامج التي نشاهدها، والرّوابط العاطفية التي نطوّرها مع الشّخصيات. وبعيدا عن كلّ اعتباطية أو استخفاف، فإن ميولاتنا في مجال وسائط الإعلام لا تخلو من المعنى إذ ترشدنا إلى حاجياتنا الاجتماعية-العاطفية. فعديد الدّراسات التجريبية أظهرت أن ما نشاهده يؤثر على أفكارنا، ومشاعرنا، وسلوكنا.

وقد سبق لعلماء النفس المختصين في وسائل الإعلام أن قاموا بدراسة مفهومين رئيسيين، هما التّرحيل، والتّفاعل ما وراء الاجتماعي. فأمّا التّرحيل، فهو نظريّة تم تطويرها سنة 2000 من قبل الباحثيْن الأمريكييْن في علم النفس الاجتماعي، ميلاني جرين وتيموثي بروك، تتمثّل في الغوص في جوهر القصة والانخراط فيها تماما، لا سيّما من خلال التّماهي مع الشّخصيات. ويأتي جانب من المتعة التي يمكن أن تصاحب التّرحيل من توسيع مفهوم الذّات التي تتبنّى (أو تنسب إلى نفسها) تجارب الشّخصيات المعنيّة. 

أمّا التّفاعل ما وراء الاجتماعي فيُعرّف على أنّه الصداقة التي نطوّرها مع الشخصيات كلّما "تعرّفنا" عليها أكثر. وقد أدخل كلّ من دونالد هورتون وريتشارد وول، عالم الأنثروبولوجيا وعالم الاجتماع الأمريكييْن تباعا، هذا المفهوم لأوّل مرّة سنة 1956 بهدف وصف الرّوابط التي يطوّرها المشاهدون مع الشخصيات الإعلامية مثل مُنشّطي البرامج الحوارية. ومنذ ذلك الحين، طُبِّقت فكرة العلاقة الوهمية مع شخصية إعلامية على مجموعة كبيرة من الشخصيات الإعلامية، الحقيقية منها والخيالية، وسواء كانوا رياضيين أو موسيقيين أو سياسيين أو نجوم الشاشة الصغيرة والكبيرة أو الشّبكات الاجتماعية.

التعويض عن المشاعر السّلبية

يميل بعضنا أكثر من غيره إلى الانسياق وراء البرامج التلفزيونية والتعلّق بشخصياتها. فأثناء الأبحاث التي قمت بها، استطعت أن أبيّن أن الأفراد الذين لديهم قابلية أكثر من غيرهم للتّماهي مع الشخصيات يتّصفون بهشاشة عاطفية مثل صعوبة التحكّم في انفعالاتهم أو قلقهم، لذلك قد تكون وسائل الإعلام التي يستهلكونها محاولة للتّعويض عن المشاعر السلبية، إضافة إلى استكمال مشاغل الحياة الواقعية.

 في مشهد إعلامي ما فتئ يزداد تنوّعا، تُوفّر منصات الوسائط المتدفّقة، مثل ناتفليكس، برامج شديدة التنوّع بداية من "الكوميديا ​​الدّرامية غير اللاّئقة" إلى "الأفلام والمسلسلات المتحرّكة الآسيوية" مرورا بـ "أفلام ومسلسلات الحرب والسياسة" أو "البرامج  حول كتاب معيّن".

هذا العرض المتضخّم لا يمنع من إبراز الرّابط بين أمزجتنا واختياراتنا في مجال الوسائط الإعلامية. فقد ورد في دراسة، أجريت سنة 2020، أنّ الأشخاص الباحثين عن "الإثارة القويّة" لديهم قابلية لمشاهدة أفلام الإثارة (التريلر) أو أفلام الرّعب، في حين أنّ الذين يُبدون الحاجة إلى التعبير عن انخراط عاطفي يميلون أكثر إلى اختيار السّجلّ الدرامي، حسب دراسة أولية قام بها كلّ من مايو Maio وإسّاس Esses سنة 2001.

وقد تكون بعض الأذواق المتعلقة بالوسائط الإعلامية مُمثّلة لخصوصيات ثقافية. فالنساء يملن أكثر من الرّجال إلى استهلاك البرامج العاطفية، وهو ما يُمكن أن يعكس تمثّلا للدّور الموكول لهنّ، تقليديًا، إلى جانب الحضور الهامّ للإناث في الأدوار الأولى. في حين يُقبل الرجال على استهلاك البرامج العنيفة لأسباب مماثلة.

هل هو سبب أم نتيجة؟

إنّ الأشخاص ذوو الميول العدوانية يحبّذون استهلاك الوسائط الإعلامية العنيفة بجميع أنواعها. ولقد تمكّنتُ، خلال أبحاثي، من إظهار أن السّمات العدوانية والمكيافيلية تسمح بتوقّع ميلٍ أكبر إلى برامج وشخصيات مخالفة لمواصفات البطل (البطل السّلبي) مثل شخصية والتر وايت، أستاذ الكيمياء الطيّب الذي يتحوّل إلى ملك مُخدّر الميثامفيتامين في المسلسل الأمريكي "بريكنغ باد". كما لاحظت أن النساء الشابات المهووسات بمظهرهن يملن إلى التشبّه بشخصياتهن النسائية الخيالية المفضّلة، وهو ما يتوافق مع مفهوم التماهي المرغوب أو wishful identification. 

هذه الأعمال، الهامّة لأكثر من اعتبار، لا تسمح لنا بتحديد اتّجاه السهم السّببي (إن طان متّجها من وسائط الإعلام إلى الذات أو من الذات إلى وسائط الإعلام؟). ومع ذلك، فإن الأبحاث التّجريبية تشير إلى أن الجواب، هو أنّه يعمل في الاتّجاهين معا. ولقد كشفت سلسلة من الدّراسات أجرتها الباحثة البريطانية ليندا بوثرويد سنة 2016 مع سكان قرًى في نيكاراغوا أن حضور نماذج النّحافة الجسدية في التلفزيون أو في الصّحافة يُؤثر على المشاهدين في تصوّرهم المثالي للجسد، سواء على المدى الطويل أو إثر البثّ مباشرة.

في الواقع قد لا تكون التّجارب الخيالية بعيدة عن التّجارب الواقعية، خلافا لما نعتقد. فرغم ما يبدو عليه تطوير روابط مع شخصيّات خيالية من غرابة، فإن هاتين العمليتين تعكسان، حسب بعض النظريات، قدرتنا على الانتفاع من تجارب الآخرين والاقتراب من الأشخاص الذين نتقاسم معهم نفس الأفكار. وعلى كلّ، فنحن نتعلّم كيف ننشأ في بيئتنا الاجتماعية بفضل المُعاينة والتّعاون. إضافة إلى أنّ صناعة التّرفيه تُشجّع بقوّة على الانخراط العاطفي في وسائط الإعلام. وكما أكّد عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي جون كوجي، فإنه "سيكون من الغريب ألا يتصرّف الجمهور بنفس الطريقة" في كلتا الحالتين.

 الحدّ من الأحكام المسبقة

إنّ ظاهرة التّماهي مع الشّخصيات بإمكانها أن توفّر فوائد هامّة للفئات المهمّشة، إذ تُظهر دراسة قام بها الباحثان الأمريكيان، سهاد مرار وماركوس براور، أن متابعة مسلسل تلفزيوني يُظهر شخصيات عربية/مسلمة "متنوّعة، وبالإمكان أن نتعرّف فيها على أنفسنا" من شأنه أن يقلّل من الأحكام المسبقة لدى المشاهدين الأمريكيين غير المسلمين، خاصة عندما يتماهون مع الشخصية الرئيسية. كما يُلاحظ برادلي بوند، الأستاذ المشارك في دراسات الاتصال بجامعة سان دييغو، كاليفورنيا، سنة 2020، أن "الاتّصال ما وراء الاجتماعي" المطوّل مع شخصيات المسلسل البريطاني كوير آس فولك (حكايات المثليين)، والذي يُصوّر مجموعة من المثليّين من منطقة مانشستر ومحيطهم العائلي والمهني، يؤدّي إلى التّخفيض من رهاب المثلية بين المشاهدين مزدوجي الجنس، لا سيما لدى أولئك الذين أظهروا أحكاما مسبقة في بداية الدّراسة. فعندما تُصبح الشخصية التلفزيونية "صديقةً"، يُصبح من الأيسر للمشاهد التّفكير في وجوب معاملتها بطريقة مُنصفة. إضافة إلى ذلك، فإنّ مُشاهدة عروض متنوّعة وإيجابية في التلفزيون عن المجموعة الاجتماعية التي ننتمي إليها يمكن أن تكون لها تأثيرات قوية على رفاهيّتنا النفسيّة والاجتماعيّة.

كما يُمكن أن يؤدّي التعلّق ببعض البرامج إلى توسيع آفاقنا الاجتماعية. فشخصيّا، ولمجابهة الجائحة، وجدت راحتي في مسلسل "آوتْلاندر"، وهي قصة رومانسية تجد فيها ممرّضة من الحرب العالمية الثانية نفسها في اسكتلندا في القرن الثامن عشر. ربّما أكون متخلّفة لكن "آوتلاندر" تتمتّع بمجموعة كبيرة من المعجبين، منهم من هو مُعجب بسلسلة روايات ديانا جابالدون التي اقتبس عنها المسلسل. حتى أن بعض المعجبين جمعوا مئات الآلاف من الدولارات لفائدة الجمعيات الخيرية المدعومة من نجوم هذا المسلسل، وهو ما يؤكد القدرات الكامنة في السلوك ما وراء الاجتماعي، وقوّة التعلّق بشخصيّات أو ممثّلين محبوبين. 

إنّ عاداتنا الإعلامية تتشابك في نسيج حياتنا اليومية لدواعٍ متعدّدة وعلى مستويات مختلفة. فالشخصيات والقصص الخيالية يمكن أن تعكس مفهومنا لذاتنا وأن تُوسّعه، وتساعدنا على التقرّب من الآخرين، أو أن نجد معنى للأشياء وراحة في الفترات الصّعبة. كما يُمكن أيضا أن تلعب دورا عكسيا. وفي كثير من الوجوه، لا يقلّ انخراطنا في الروايات الخيالية تعقيدًا عن انخراطنا في واقع التجارب الملموسة والعلاقات التي نعيشها.

مطالعات ذات صلة

"هوّيتي المتعددة فرصة ثمينة"، حوار مع الصحفية البريطانية زينب بدوي، رسالة اليونسكو، يناير- مارس 2018

"هم اختاروا السلاح، وأنا الكاميرا"، حوار مع مخرجة الأشرطة الوثائقية النرويجية دياه خان، رسالة اليونسكو، أكتوبر - ديسمبر 2017

"شاشة صغيرة ، تأثيرات كبيرة"، الرسالة الجديدة، أكتوبر 2004

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.

تابع  رسالة اليونسكو على تويتر، فيسبوك، أنستغرام