
الشعوب الأصلية، رقيب مستنير للتنوّع البيولوجي
cou_03_21_wide_angle_indigenous_web.jpg

إنّ أكثر من ربع الأراضي في العالم تملكها الشعوب الأصلية أو تتصرّف فيها أو تقيم عليها. لكنّ معارف هذه الشعوب نادراً ما يتم أخْذها في الاعتبار من قِبل الباحثين وأصحاب القرار رغم ما تُحظى به من اعتراف متزايد.
بيتر بايتس
وحدة الإسناد التقني للمنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التّنوع البيولوجي وخدمات النّظم الإيكولوجية حول المعارف المحليّة ومعارف الشّعوب الأصليّة- برنامج نُظُم المعارف المحليّة ومعارف السكّان الأصليّين، اليونسكو
براسرت تراكونسوفاكون
جمعية بغاكينياو Pgakenyaw للتنمية المستدامة، تايلاندا
منذ مئات السّنين، يمارس سكّان قرية كارين، في هين لاد ناي، الواقعة في قلب الغابات الخصبة بمحافظة تشيانغ راي، شمال تايلاند، الزّراعة المتنقّلة أو الدّورة الزراعيّة بالتناوب على الأراضي. وهذه التقنية الزّراعية المستدامة القائمة على قطع الأشجار والنّبات وحرقها -والتي تعرّضت، في وقت معيّن ودون وجه حقّ، إلى الانتقاد بدعوى تأثيرها على تغّير المناخ- تُستخدم لاستصلاح الأراضي وإعادة إحيائها.
يتمّ قطع الأشجار والنّبات داخل مقاسم غابيّة صغيرة، قبل إحراقها بعناية، مع السّيطرة على النّيران، وتحويلها إلى سماد لتغذية التّربة. ثم تُزرع محاصيل متنوّعة لفترة محدودة، ويتمّ بعد ذلك تبوير الأراضي (أي تركها ترتاح). وفي النّهاية، تنمو الغابة من جديد ثمّ تتكرّر الدّورة باستمرار.
هكذا، تُنشئ المجتمعات موائل حرجية عديدة ومتلاصقة في شكل فسيفساء تتميّز بأطوار متراوحة بين الزراعة وإعادة النّمو. وفي الوقت الذي يتناقص فيه النّحل الدّاجن في العالم بأسره، تزدهر ثلاثة أنواع من النّحل البرّي في هين لاد ناي. أمّا العسل الذي يتم جنْيه في الأراضي البور فهو ذو نوعيّة أفضل من نوعية عسل الغابات، ويُباع في الأسواق التايلاندية.
وليس مثال القروييّن في هين لاد ناي سوى واحد من بين عديد الأمثلة الأخرى. فقد أصبح مناصرو حماية البيئة أكثر وعياً بالدّور الذي تضطلع به الشعوب الأصلية في الدّفاع عن تراثها الطبيعي. هذا وقد حُظيت المعارف الإيكولوجية التقليدية المتعلّقة بمكافحة استنزاف التنوعّ البيولوجي العالمي باعتراف واضح من قِبل التقييم العالمي الصّادر عن المنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النّظم الإيكولوجية، والذي نشر في مايو 2019.
وتدعم اليونسكو، منذ أمد بعيد، هذا التوجّه، ولاسيّما عن طريق البرنامج المعني بنُظم المعارف المحلّية ومعارف السكّان الأصليّين (LINKS)، الذي يأوي وحدة الإسناد التّقني للمنبر الحكومي الدّولي للعلوم والسّياسات في مجال التنوّع البيولوجي وخدمات النّظم الإيكولوجيّة (IPBES).
معارف ضاربة في أعماق التاريخ
يعيش العديد من الشّعوب الأصلية في مناطق منعزلة وكثيراً ما تكون غنيّة جداً بالتنوّع البيولوجي، حيث يتطلّب العيش إيجاد توازن مع الطّبيعة من أجل البقاء.
وبفضل ما تمتلكه هذه الشّعوب من دقّة الملاحظة، غالباً ما تكون قادرة على الرّبط بين مختلف الظّواهر في علاقة بتطوّر النّظام الإيكولوجي من قبيل تغيّر الظّروف المناخيّة أو وصول أجناس جديدة. فمثلا، أتاحت مئات السنين من مراقبة أمواج التسونامي من طرف شعوب الموكين، القاطنين في بحر أندمان على طول السّاحل الغربي لتايلاند، البقاء في أمان عندما ضرب التسونامي القاتل قُراهم في عام 2004.
هذه المعارف تسمح أيضا بمعرفة التوقّعات الموسمية إذ في مقدور رعاة الماشية، بشرق إفريقيا، توقّع توقيت قدوم الأمطار ومكان نزولها من خلال ملاحظة إزهار الأشجار وسلوك الحشرات والطّيور. ويتمّ رصد هذه المؤشرات البيولوجية من قِبل كشّافين يجوبون الأقاليم لتحديد الزّمن والمكان الملائمين لتنقّل قطعان البقر.
كما أنّ هذه المعارف المحلية ليست جامدة بل تُدرج في الحسبان الظّواهر الجديدة التي تطرأ على البيئة. فالأمم الأولى لشمال كندا لاحظت تغيّرات في سلوك قطعان الذئاب عند اصطياد الفريسة وفي دينامية القطعان ذاتها في علاقة بانخفاض أعداد حيوان الرنّة. وهي تغيّرات طرأت بسبب مدّ الطّرقات وخطوط الأنابيب التي تعبر، حاليا، غاباتهم وتقسّمها.
حيوانات، ونباتات، وأرواح
إنّ نُظُم المعارف التّقليدية تحكم علاقات البشر بالتّنوّع البيولوجي. ففي نظر هذه الشّعوب، تشمل "الطّبيعة"، في أغلب الأحيان، الحيوانات، والنّبات، والأرض، والبشر، والأرواح. ووفقاً لهذا التّصور، لا يُعتبر البشر أعلى منزلة من الطّبيعة، كما أن الطّبيعة لم توجد لأجل إخضاعها إلى البشر.
وترى بعض المجتمعات الأصلية أنّ الحيوانات بمثابة الهِبَة التي تُقدّم إلى الصّيادين، لذا فهي تحظى باحترام واعتزاز يتجسّدان في طقوس معيّنة، وتُوزّع لحومها بين أفراد المجتمع وعلى الحيوانات الأخرى كما هو الشأن، بالخصوص، لدى صيّادي الحيتان الضّخمة في الآلسكا. فهذه الشعوب الأصلية تعيش وفق منظومة مؤسّسات عرفية معقّدة، وقواعد، ومحرّمات، ترشدها وتنظّم علاقاتها بالبيئة التي تعيش فيها.
بيد أن الشعوب الأصلية في العالم بأسره توجد في الخطوط الأمامية للتغيّرات البيئية والاجتماعية. فالزّراعة، واستغلال الغابات، والتّنمية الصناعية، أنشطة تُلحق الضّرر، على نحو متزايد، بمناطق التنوّع البيولوجي الغنيّ، بل تدمّرها أحيانا؛ حيث يتمّ، في غالب الأحيان، مصادرة أراضي الأجداد أو الاستيلاء عليها وتحويلها إلى حيازات زراعية أحادية المحاصيل. ومثل هذه الممارسات تقترن، أحيانا، بأعمال عنف تجاه السكّان الأصليين. ومن تبعات ذلك، أيضا، زيادة تلوّث المياه، والاستغلال المشطّ للحيوانات والنّبات بما يفضي إلى ندرة الأغذية واضطراب سبل العيش التقليدية.
وعلى صعيد آخر، فإنّ الجهود الرّامية إلى إدماج الشعوب الأصلية في المجتمعات الوطنية يشكل، بدوره، تهديداً لنمط حياة هذه الشعوب. فالتعليم في شكل دروس تُلقى داخل قاعة الدّرس لا يساعد على نقل المعارف عن القدماء. ومن المفارقة أن الجهود المبذولة لحفظ التنوّع البيولوجي، من قبيل إنشاء مناطق محميّة أو منع استغلال بعض الأنواع، قد تشكّل تهديداً إضافيا في ظلّ منع هذه الشّعوب من النّفاذ إلى الموارد الغذائيّة والفضاءات التّقليدية.
تعليم يتكفّل به القدماء
هناك الكثير من المعارف التي يمكن تعلّمها من الجماعات المحلية الأصلية، إلاّ أنّ العلوم الغربية غالبا ما تجد صعوبة في أخذ هذه المعارف التّقليدية بعين الاعتبار نظرا لكونها شفويّة، في معظمها، أو تستند إلى الخبرة العمليّة، في حين ينزع الباحثون وأصحاب القرار إلى اعتماد الوثائق المكتوبة بشأن معارف الشّعوب الأصلية بدلاً من الارتباط بهذه الشّعوب نفسها.
على أنّ هناك عدد متزايد من المبادرات الإيجابية في مجال التّعاون مع الشّعوب الأصليّة في مجالات البحث، والتّعليم، وإدارة، التنوّع البيولوجي واتّخاذ القرار في شأنه، وما يفترض التّعامل مع هذه الشعوب الأصلية كشريك بالكامل.
وبدلاً من أن تكون هذه الشعوب مواضيع بحث، فبإمكانها أن تتحوّل إلى شريكة في صياغة مشاريع بحثية من خلال تناول قضايا، ومنهجيات، ونتائج ذات دلالة ومعنى بالنسبة لها. مثال ذلك مشروع تبادل المعاينات والمعارف في منطقة القطب الشمالي (ELOKA) المتعلّق بمعارف شعوب الإنويت الأصليين حول طبقات الجليد البحري.
كما يمكن إعداد برامج مدرسية من طرف هذه الشعوب ولصالحها بغاية تشجيع المعارف عن كوكب الأرض، وجعلها تُدَرّس من طرف القدماء بدلاً من تعليمها في قاعات الدّرس. وقد بادرت الشعوب الأصلية بكندا والجماعات الأصلية في هاواي بالولايات المتحدة بوضع هذه المقاربة محلّ اختبار.
لقد حان الوقت لكي تسيطر الشعوب الأصلية بالكامل على عملية اتخاذ القرارات المتعلقة بأراضيها، ومواردها المائية، ومجتمعاتها المحلية بما يتيح لها تطبيق معارفها في مجال تنفيذ القرارات التي تعود بالنّفع على التنوّع البيولوجي. والأكيد أنّ التّداعيات المنتظرة من هذا الخيار، سواء على الأشخاص أو على كوكب الأرض أو على التنوّع البيولوجي، سوف تكون عظيمة.
محميات المحيط الحيوي: التعبئة من أجل التصدي لإزالة الغابات الأمازونية
مطالعات ذات صلة
التكنولوجيات المتقدمة على طريقة سيكو، رسالة اليونسكو، يناير- مارس 2019
أرزّ وسمك وبطّ في تناسق مع البشر، رسالة اليونسكو، يناير- مارس 2019
لنُصغ إلى نداء البحيرة، رسالة اليونسكو، أبريل- يونيو 2018
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.