في لمحة بصر بالمقاييس الجيولوجية، ظهر مجال جديد يستمر في النمو على وتيرة متسارعة، يناهز وزنه 30.000 مليار طن. يدعى هذا المجال «المحيط التكنولوجي» ويشمل كتلة من ثاني أكسيد الكربون المنبثقة عن النشاط الصناعي والمنبعثة في الجو – تمثّل وحدها ما يعادل 150.000 هرم من الأهرامات المصرية!
بقلم يان زالاسيوفيتز
يمكن وصف كوكب الأرض على أنه يتشكل من مجالات بيئية مختلفة. فهناك الغلاف الصخري المتكون من الطبقات الصخرية السفلى، والغلاف المائي من المساحات المغطاة بالمياه، والغلاف الجليدي ويضمّ المناطق القطبية وقمم الجبال الثلجية. أما الغلاف الجوي فهو الهواء الذي نتنفسه. ونحن أيضا جزء من المحيط الحيوي وننتمي الى الكائنات الحية المتواجدة في كوكب الأرض. وكانت كل هذه المجالات البيئية قائمة، بشكل أو بآخر، طوال فترة وجود الكوكب أي منذ حوالي 4،6 مليار سنة. وها أن برز في الفترة الأخيرة مجال بيئي جديد – ألا وهو المحيط التكنولوجي.
إن المحيط التكنولوجي بالمعنى الذي نعرفه، هو مفهوم تصوّره عالم الجيولوجيا المهندس الأمريكي بيتر هاف، وهو أستاذ فخري في جامعة ديوك بالولايات المتحدة. ومثل ما حدث مع مفهوم الأنثروبوسين (عصر هيمنة الإنسان)، يحظى مفهوم المحيط التكنولوجي باعتراف متزايد، وعلى سبيل المثال فهو يحتل مركزا محوريا في مشروع ضخم بعثته حديثا بيت الثقافة العالمية، المركز الدولي للفنون المعاصرة في برلين بألمانيا.
وكما حصل مع الأنثروبوسين، يثير مفهوم المحيط التكنولوجي جدلا بسبب الدور الذي ينسبه للبشر والقيود التي يفرضها عليه. فهو يوحي بأن حريتنا الجماعية في قيادة نظام كوكب الأرض هي أقل بكثير مما نتصوّر.
ويشمل المحيط التكنولوجي جميع المواد التكنولوجية التي أنتجها البشر، دون أن ينحصر فيها لأنه ليس مجرد مجموعة من الأجهزة التكنولوجية يتفاقم حجمها يوما بعد يوم، بل هو نظام في حد ذاته. ولتوضيح هذا التمييز الحاسم، يجدر مقارنته بمفهوم ثابت وهو المحيط الحيوي. ان عبارة "المحيط الحيوي" من صياغة العالم الجيولوجي النمساوي إدوارد سويس في القرن التاسع عشر، ثم قام العالم الروسي فلاديمير فيرنادسكي بتطويرها في القرن العشرين لتصبح مفهوما يدلّ ليس فقط على جملة الكائنات الحية المتواجدة على الأرض، بل ويشمل كذلك تفاعلها مع الهواء والماء والتربة التي تغذي الحياة العضوية، والشمس التي تمنحها جزءا هاما من طاقتها. لذلك يدلّ مفهوم المحيط الحيوي على ما أبعد من مجموع مكوّناته، لأنه مرتبط وثيق الارتباط بالمجالات البيئية الأخرى للكرة الأرضية، بالإضافة إلى ديناميته الذاتية وخصوصياته الظاهرة.
التلاعب بالطبيعة
والأمر كذلك بالنسبة للمحيط التكنولوجي. فهو لا يتكوّن فقط من الآلات، بل يشملنا أيضا نحن معشر البشر، اضافة الى النظم الاجتماعية والمهنية التي نستعملها في تفاعلنا مع التكنولوجيا: المصانع، والمدارس، والجامعات، والنقابات، والبنوك، والأحزاب السياسية والإنترنت. كما أنه يحتوي على الحيوانات الأليفة التي نقوم بتربيتها بأعداد هائلة لتغذيتنا، والنباتات التي نزرعها لتوفير قوتنا وقوت حيواناتنا، وأيضا الأراضي الزراعية التي تمّ تعديل حالتها الطبيعية بصفة جذرية لتحقيق هذه الأهداف.
كما يشمل المحيط التكنولوجي الطرق، والسكك الحديدية، والمطارات، والمناجم والمحاجر، وحقول النفط والغاز، والمدن، والمنشآت المائية وأحواض التخزين. وقد ولّد المحيط التكنولوجي كميات هائلة من النفايات - بدءا بمواقع دفنها وصولا الى تلوث الهواء والأراضي والمياه. من المؤكد أنه وجد في تاريخ البشرية شكل أوّلي للمحيط التكنولوجي، ولكنه لم يتمثل خلال فترة طويلة الّا في أجزاء معزولة ومتناثرة، دون أهمية كبرى على الكوكب. أما اليوم وقد تحوّل الى نظام عالمي مترابط، فهو يشكل تطورا جديدا وحاسما بالنسبة لكوكبنا.
ما هو حجم المحيط التكنولوجي؟ يمكن قياسه بصفة تقريبية باحتساب كتلة مكوّناته المادية المتمثلة في المدن وكميات التربة التي تم استخراجها ونقلها لبناء أسسها، وفي الأراضي الزراعية، والطرق والسكك الحديدية وما إلى ذلك. ويقدّر وزن المواد التي نستخدمها أو التي تم استخدامها ورميها بحوالي 30.000 طن لمجمل مساحة الأرض.
كما أن العناصر المادية المكوّنة للمحيط التكنولوجي في غاية التنوّع. لقد صنع أسلافنا في عهود تعود الى ملايين السنين، أدوات بسيطة مثل الفؤوس الحجرية. ولكن، اعتبارا من الثورة الصناعية، وبالخصوص منذ تصاعد سرعة النمو السكاني والتصنيع والعولمة في منتصف القرن العشرين، نشهد انتشارا مدهشا للآلات والأدوات المصنوعة، بشتى الأنواع. كما تتطوّر التكنولوجيا بسرعة متفاقمة ومستمرّة. ولم يشهد أسلافنا في مرحلة ما قبل الطور الصناعي، سوى تغييرات تكنولوجية قليلة من جيل إلى آخر. أما اليوم، على سبيل المثال، ففي غضون جيل بشري واحد، عمّ استخدام الهواتف الجوالة كل الفئات مهما كانت أعمارها.
أحافير المستقبل
وقد يساعدنا على بلورة الطبيعة الغريبة لهذة الظاهرة الجديدة التي اجتاحت عالمنا، اعتبار المنتجات التقنية - وفي مقدمتها الهواتف الجوالة - بمثابة الأحافير التقنية الشبيهة بالأحافير في المجال الجيولوجي، نظرا لأنها مصنوعة من مواد حيوية صلبة ولا تنحل بسهولة. وسوف تشكل أحافير المستقبل المكونة لطبقات الأنثروبوسين، أي عصر هيمنة الإنسان.
لا أحد يعرف عدد أصناف الأحافير التقنية حاليا، لكن حسب التقديرات، يحتمل أن يكون عددها قد تجاوز عدد أصناف الأحافير المعروفة. وفي ذلك وجه تشابه مع التنوّع التكنولوجي الحديث الذي فاق التنوّع البيولوجي الحديث. كما أن عدد أنواع الأحافير التقنية في تزايد مستمر، حيث أن سرعة التطور التكنولوجي فاقت بكثير سرعة التطور البيولوجي.
ان الطاقة الضرورية للمحيط الحيوي آتية حصريا من الشمس، أما المحيط التكنولوجي فهو يعتمد لا فقط على الطاقة الشمسية - وعلى الموارد المتجددة الأخرى مثل الطاقة الريحية - بل هو يبقى بالأساس معتمدا على الطاقة المستمدة من المحروقات مثل النفط والفحم والغاز. وفي الواقع، تتكون مصادر الطاقة غير المتجددة هذه من أشعة الشمس التي تجسّمت في أعماق الأرض طوال مئات الملايين من السنين، ويتمّ إهدارها في غضون بضعة قرون.
لقد استخدم البشر مصادر الطاقة مثل الطواحين المائية لآلاف السنين، لكن كميات الطاقة الضرورية الآن لتزويد المحيط التكنولوجي لا تترك أي مجال للمقارنة مع الماضي: إن كميات الطاقة التي استهلكها البشر منذ منتصف القرن العشرين تفوق الكميات التي تم استهلاكها خلال فترة الهولوسين أي على مدى أحد عشر ألف سنة.
تحت أكوام من النفايات
هناك نقطة اختلاف جوهرية بين المحيط التكنولوجي والمحيط الحيوي. لقد نجح المحيط الحيوي في إعادة تأهيل المواد التي تكونه، وذلك هو سبب استمراره على الأرض طوال مليارات السنين. أمّا المحيط التكنولوجي، فهو غير قادر على إعادة تأهيل المواد. هناك أمثلة صارخة تدل على هذا العجز منها جبال البلاستيك المتراكمة في البحار وعلى الشواطئ، في كل أنحاء العالم. وتوجد نفايات خفية عديمة اللون والرائحة مثل ثاني أكسيد الكربون الناجم عن المحروقات الأحفورية. لقد بلغت كتلة ثاني أكسيد الكربون المنبعثة في الجو جراء النشاط الصناعي حجما هائلا يقارب ألف مليار طن، أي ما يعادل حوالي 150.000 من الأهرامات المصرية. وفي حال عدم التحكم فيه، سوف يشكل هذا النمو السريع للنفايات تهديدا لبقاء المحيط التكنولوجي وحياة البشر.
المحيط التكنولوجي هو منبثق من المحيط الحيوي، وهو نظام معقد له ديناميكيته الخاصة. ومن أهم العوامل التي تسببت في ظهوره قدرة الجنس البشري على تكوين هياكل اجتماعية متطورة، وصنع الأدوات واستعمالها. ويوضح المهندس هاف أنه مع ذلك، ليس البشر هم الذين ابتكروا المحيط التكنولوجي ولا هم الذين يتحكمون في ادارته، بل البشر من بين مكونات هذا المحيط، مرغمون على السعي من أجل ثباته لأنه يضمن بقاء نسبة هامة من البشرية على قيد الحياة، بفضل ما يوفره من غذاء وسكن وموارد أخرى. وقد أدى تطور هذا المحيط الى نمو عدد سكان الأرض من بضعة عشرات الملايين - وهم أسلافنا الذين كانوا يقتاتون من الصيد والقطف - إلى 7،3 مليار نسمة. إن مجرد ابتكار تكنولوجي واحد - مثل الأسمدة الاصطناعية المنتجة حسب طريقة هابر-بوش - تمكّن من المحافظة على حياة حوالي نصف سكان المعمورة.
ولا يعود تطوّر المحيط التكنولوجي إلى إرادة الإنسان أو قدرته على التحكم فيه، وإنما إلى ظهور ابتكارات جديدة نافعة. وأصبحنا نشهد تطورا مشتركا بين النظم البشرية والنظم التكنولوجية.
ظروف عالمية متغيرة
وقد يجوز اعتبار المحيط التكنولوجي بمثابة عنصر طفيلي دخيل على المحيط الحيوي، أدى إلى زعزعة قابلية الأرض لإيواء الأحياء، مع عدد من العواقب الواضحة، منها: تسارع وتيرة انقراض أنواع النباتات والحيوانات، وتغيرات في المناخ وفي التركيبة الكيميائية للمحيطات وما ينجر عنها من أضرار على المجموعات البيولوجية الكائنة. وقد تؤدي هذه التغييرات بدورها إلى إفساد سيرورة المحيط الحيوي والإساءة بالسكان. والأفضل أن يحاول البشر توجيه تنمية المحيط التكنولوجي نحو مستقبل مستدام. علما وأن ليس لديه أي خيار سوى الإبقاء على سير المحيط التكنولوجي لأنه أصبح ضروريا للوجود.
إن تحديد هامش الحرية، في هذا السياق، من أجل العمل الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي الفعال، هو أحد التحديات التي يطرحها علينا تطور المحيط التكنولوجي. والخطوة الأولى هنا هي في كيفية أن نفهم على نحو أفضل هذه المرحلة الجديدة غير العادية من تطور كوكبنا حيث لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله.
الصور أعلاه
مارتين فاندن آيند Maarten Vanden Eynde
جان-بيار برازس Jean‑Pierre Brazs