بناء السلام في عقول الرجال والنساء

الأحداث

لنُصغ إلى نداء البحيرة

cou_02_18_tsa_tue_02.jpg

بحيرة الدب الكبرى عند الغروب. يعتقد السكان المحلّيون أن تودز، «قلب الماء»، يخفق في أعماق هذه البحيرة العظيمة، وهي آخر بحيرة بقيت سليمة في المنطقة القطبية الشمالية

قرر سكان بحيرة الدب الكبرى الواقعة في وسط الأقاليم الشمالية الغربية في كندا، الأخذ بزمام مصيرهم. بعد الجهود التي بذلوها على مدى عقود من الزمن، تحصّلوا على حقهم في الحكم الذاتي في عام 2016. وفي نفس السنة، تمكنوا أيضا من إدراج إقليمهم تسا توي، ضمن الشبكة العالمية لمحميات المحيط الحيوي التابعة لليونسكو. وهم ماضون قدما على الطريق الصحيح للحفاظ على المياه التي تضمن لهم البقاء على قيد الحياة.

بقلم شان سياورونغ

«أخرج على متن قاربي يوميا لمدة ست ساعات، وأعبر البحيرة بعيدا، وقد أبلغ أحيانا الضفة الأخرى، حسب حالة الطقس. لا أرى شيئا سوى أرض ممتدة إلى ما لا نهاية... حيث كان يعيش أسلافي. وأذكر أبنائي بذلك قائلا: "انظروا إلى الأرض وسوف تخبركم بقصتها. ألا تريدون الإنصات إليها؟ غير أنكم تعرفونها تمام المعرفة"». هذا الرجل الذي يطالب أبناءه بالإنصات إلى صوت أرض أجدادهم ولا يتردد في عبور منطقة متجمدة على امتداد 30.000 كيلومتر مربع، يدعى ريموند توتشو. وهو يعيش على ضفاف بحيرة الدب الكبرى، آخر بحيرة كبيرة في القطب الشمالي بقيت عذراء.

إن احترام الطبيعة والأسلاف متجذّر في أذهان شعبه الذي لا يعد أكثر من 600 شخص، أغلبهم تقريبا من سلالة «ساهتوتو إين» المنتمية لفرقة «ديني» وهي مجموعة منحدرة من الأمم الأوائل، تعيش في المنطقة الوسطى لأقاليم الشمال الغربي في كندا. وقد استقروا في بلدة ديلين الواقعة على الضفة الغربية للبحيرة. وتعني عبارة «ساهتوتو إين» «شعب بحيرة الدب» و«ديلين» «حيث تتدفق المياه». وقد تولى توتشو رئاسة حكومة غوتين ديلين الجديدة، وهي أول حكومة للشعوب الأصليّة في كندا تتمتع بالاستقلال الذاتي، تشكلت في سبتمبر 2016.

أواصر تعود لآلاف السنين

ويعتقد الساهتوتو إين أن البحيرة تحتوي على ما يسمونه «تودز»، أي «قلب الماء»، يخفق في أعماقها، ويضخ المياه - منبع الحياة - من الأنهار ومحيطات العالم. بالنسبة لهم، تشكّل النقاوة الطبيعية لبُحيرة الدب الكبرى مصدر علم الكونيات، والتاريخ، والقانون التقليدي وكذلك الاقتصاد المبني على الموارد المتجددة.

ترتكز معتقدات شعب الديني الروحيّة، على احترام عميق لجميع عناصر الكون. وهم يعتبرون أن الحيوانات والطيور والأسماك والرعد والبرق والماء والصخور، كلها مفعمة بقوة حيوية ذاتية. تنبض الحياة في كل عنصر من عناصر الطبيعة، وكل عنصر له روح خاصة. وهذه النظرة للعالم هي التي ترشد هؤلاء المتصرفين البارعين في الأرض على سبل المحافظة على جوهر هويتهم كساهتوتو إين.

وتؤكد الرسالة الثابتة المنقولة عن الأسلاف على ضرورة السلوك مثل الحارس الأمين لكل ما جادت به الطبيعة. وطالما تمت رعاية هذه النعم والمحافظة عليها في حالة جيدة، فسوف تستمر في المنّ بمنافعها للجميع.

يقول شارلي ناييل، مندوب الشيوخ في المجلس الأعلى: «تعود الأواصر التي تربطنا بالبحيرة ونواحيها إلى آلاف السنين. لقد تنبأ البعض بأن بحيرة الدب الكبرى سوف تكون آخر مكان تتدفق فيه المياه، وذلك لأن قلب الماء سوف يخفق بدون انقطاع.» ويضيف: «ولكن، إذا قمنا بطعنه وتسببنا في موته، فسوف يموت كل شيء. وحتى لا يحدث ذلك، علينا تعليم الناس مدى أهمية المياه».

ويوضح الشيخ ليون موديست: «نحن لا نهتم بالمال». إن ما يثير قلق المجموعة هي المشاريع التنموية الجديدة التي قد تهدد بالإخلال بالتوازن الطبيعي للبحيرة.

التصرف في الأراضي بالقدر المناسب

على الرغم من أن شيوخ ديلين كانوا دائما يحثون الجميع على العيش في وئام مع محيطهم، الاّ أن تغّير المناخ وضغوط التنمية المتزايدة تحتّم أكثر فأكثر احترام التقاليد، وتدعو لاتخاذ تدابير أخرى للمحافظة على طريقة العيش القديمة.
يقتات المجتمع المحلي أساسا من الصيد البحري والبري. ويشمل اقتصاده المرتكز على الموارد المتجددة، بعض الأنشطة السياحية التي تتوسع شيئا فشيئا،  وكذلك تطوير البنى التحتية.

وقد شكل الحصول على الحكم الذاتي دافعا هائلا للاقتصاد. هذا المكسب الذي تم الفوز به بعد عقود من النشاط السياسي، يعني أن سكان ديلين أصبح لديهم حكومة خاصة بهم، لها قواعدها، وأنه أصبح بإمكانهم العمل على الحفاظ على ثقافتهم ولغتهم وممارساتهم الروحية وعلى طريقة عيش مرتبطة شديد الارتباط بالطبيعة.

وعلى سبيل المثال، عندما لوحظ أن عدد الوعول قد تقلص خلال الخمسة عشر سنة الماضية لينخفض من 500.000 رأس الى 60.000 بسبب التغيّر المناخي، قررت حكومة غوتين ديلين تقييد ضوابط الصيد. يقول ليونارد كيني، المكلف بالتنمية الاقتصادية المجتمعية في الحكومة: «جميعنا يحترم هذه القواعد». ولكن لا يزال المواطنون يصطادون «إلى حد ما» حيوانات أخرى، مثل الموظ.

في عام 2013، عقد شيوخ منطقة ديلين والمنظمات الرئيسية للمجتمع محادثات حول إنشاء محميّة للمحيط الحيوي. وقد تمّ تشكيل اللجنة التوجيهية لمحميّة تسا توي في العام التالي. وقد ساهمت هذه الشراكة بين المنظمات الحكومية وغير الحكومية في توسيع التوافق حول الدور الحاسم الذي يجب أن يلعبه السكان الأصليين في إدارة أراضيهم.

وفي مارس 2016، انضمت تسا توي إلى الشبكة العالمية لمحميات المحيط الحيوي التابعة لمنظمة اليونسكو، وقد حظي الحدث بالترحيب والاحتفال من قبل المجتمع المحلي. وقد صرحت جينا بايها، إحدى منسقات المشروع: «لا يمكن للبحيرة أن تتكلم، لذا سوف نتكلم بالنيابة عنها».

يتولى مجلس التصرف في محمّية المحيط الحيوي تسا توي، المؤلف من سكان بلدة ديلين، مسؤولية تنفيذ برنامج المحيط الحيوي. ويضّم ممثلين عن مجلس ديلين المكلف بالموارد المتجددة، وهيئات رئيسية الأخرى، والوكالة الحكومية  «باركس كندا»، وعدد من الشيوخ والشباب. وتعتمد قرارات المجلس بالتوافق.

تعد تسا توي التي تبلغ مساحتها 93.300 كيلومتر مربع، أكبر محيط حيوي في قارة أمريكا الشمالية. وتشمل بحيرة الدب الكبرى (أكبر بحيرة تقع بالكامل داخل الأراضي الكندية)، وجزء من مستجمعها المائي الواقع في مقاطعة ديلين، داخل أراضي ساهتو.

وينقسم المستجمع المائي المكون من مساحات برية شاسعة تزخر بالغابات الشمالية وغابات الصنوبر والأنهار والجبال، إلى ثلاث مناطق بيئية: غابات الصنوبر في السهول الغربية؛ درع غابات الصنوبر في الجنوب الشرقي الذي يشمل منطقة تصريف نهر كامسيل؛ والمنطقة البيئية للقطب الأسفل على الضفة الشمالية الشرقية للبحيرة. وفي هذه المناطق البيئية، تم تصنيف الأراضي إلى تسعة جهات بيئية واثنين وعشرين مقاطعة بيئية، تعرض كل منها مزيج من التضاريس الأرضية، والتربة دائمة التجمد، وأنواع أخرى من التربة، والأنظمة المناخية وتجمعات بيولوجية تضفي عليها خصوصية فريدة من نوعها.

وإجمالا، تمت حماية مياه تسا توي من التلوث، وبقيت مصائد السمك في حالة جيدة، كما أن الضفاف مليئة بالحيوانات البرية. ومن الحيوانات المتواجدة بكثرة نذكر وعل السهول الجرداء، والدب الرمادي، والموظ وثور المسك، إضافة الى مجموعة متنوعة من الطيور المهاجرة، مما يدل على السلامة البيئية العالية التي يتمتع بها الموقع.


يعيش شعب بحيرة الدب الكبرى بالأساس من الموارد المُتجددة التي تمنحها البحيرة

لا تدع الحداثة تمحو ماضيك

إن التوفيق بين التقليد والحداثة مع ضمان حماية رفاهية السكان الأصليين الاقتصادية والاجتماعية، ليس أمرا هينا. ولا تستثني هذه المشكلة الأمم الأوائل في كندا. إن الحياة العصرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتقنيات الحديثة، التي يعتمد استخدامها على معرفة اللغات الحديثة. يتعلم الشباب اللغة الإنجليزية، فيفقدون تدريجيا كل صلة بلغتهم القبلية.

ووفقا لأطلس اليونسكو الخاص بلغات العالم المعرضة لخطر الانقراض، هناك ثمانية وثمانون لغة مهددة بالانقراض في كندا. من بينها لغة «ساهتوت إن ياتي»، التي تتكّلمها شعوب بحيرة الدب الكبرى والموزعة على أربع مجموعات في كندا (1100 من المتحدثين بهذه اللغة في عام 2006). وقد تم تصنيفها كلغة «في خطر»، أي أن الأطفال لم يعودوا يتعلمّون لغتهم الأم في الإطار العائلي. وبين درجة «في خطر» ودرجة «منقرضة»، لم تبق سوى ثلاث درجات. ما السبيل إذن في هذه الحالة، لنقل معارف الأسلاف وحكمتهم إلى الأجيال الشابة؟ مع انقراض اللغات، تنقرض المعرفة الأصلية.

في 6 ديسمبر 2016، أعلن رئيس الوزراء الكندي جوستين ترودو عن التزامه « بأن تقوم الحكومة بسن قانون يتعلق بلغات السكان الأصليين، يتم تشريك  الشعوب الأصلية في صياغته، بهدف ضمان حفظ لغات الأمم الأولى ومجموعات السكان المخضرمين والإنويت، وحمايتها وإحيائها».

وتسعى حكومة غوتين ديلين على تعزيز منظومة التعليم وتعتزم إصدار قوانين تضمن لسكان ديلين الحق في التكوين في  لغتهم الأصلية وتشجّعهم على استخدامها في حياتهم المهنية.

تعكس هذه الجهود، في نفس الوقت، روح الانفتاح التي تتحلى بها كندا، والعودة إلى السيادة التقليدية في إطار هياكل الحوكمة الحديثة. وهناك العديد من العبر التي يمكن استخلاصها لدعم مبادرات أخرى لصالح المحيط الحيوي قصد إقامة علاقات جديدة على أساس الاحترام والوئام والتضامن بين البشرية وكوكب الأرض.

ونأمل أن تساهم تجربة تسا توي على تشجيع مجتمعات الشعوب الأصليّة الأخرى على الانخراط أكثر فأكثر في إدارة محميات المحيط الحيوي المتواجدة على أراضيها.

 

تنشر رسالة اليونسكو هذا المقال مساهمة منها في الاحتفال باليوم الدولي للتنوع البيولوجي في 22 مايو.

لمزيد من المعلومات

الشبكة العالمية لمحميات المحيط الحيوي التابعة لمنظمة اليونسكو