«قال حكيم أفريقي متقدم في السن: لي حقيقتي ولك حقيقتك، أما الحقيقة فتوجد في الوسط. وحتى نقترب منها، يجب على كل واحد منا أن يتخلّى عن شيء من حقيقته ليخطو خطوة نحو الآخر». تلك هي إحدى العبر التي كان أمادو همباطي با يأمل في نقلها إلى الشباب في قارّته وفي أنحاء أخرى من العالم، في رسالة كتبها في الثمانينات. وهي رسالة تأخذ اليوم طابعا تنبّئيّا.
بقلم عبد الرحمان أ. وابري
في شمال الصحراء كما في جنوبها، جزء كبير من الشباب الأفريقي لم يعرف إلا حياة منعدمة الاستقرار، يدفعهم البؤس وغياب الأفق نحو المغامرة والمجازفة بأجسادهم. وتبدو لهم مواجهة الصحراء والمُهرّبين والأسلاك الشائكة وأمواج البحر الأبيض المتوسط أيسر من تحمّل حياتهم المهمّشة وحالة التدهور التي يعيشونها. ما العمل؟ التحرّك، الهروب، الهجرة حتى الهلاك في البحر إن لزم الأمر. عند استجوابهم، يفسّر الناجون من الغرق أنهم لجؤوا إلى هذا الحل لغياب موارد الرزق. إنّ عبور الصحراء قصد التعرض للبيع في سوق العبيد في ليبيا أو الالتحاق ببوكو حرام، لا يمثل خيارا ولا مشروع حياة.
لم يحظ هذا الشباب الذي نشأ في الأحياء الفقيرة بالاستفادة مما تركه الأسلاف وما جادوا به من نصائح ودروس لتسيير الحياة. ومن بينهم أحد أبرز أعلام القارة الأفريقية بأكملها، وهو المالي أمادو همباطي با (1901-1991) الذي تُسند إليه المقولة الشهيرة «عندما يموت عجوز في أفريقيا، فكأنّما احترقت مكتبة»، وفي الحقيقة المقولة الصحيحة كالتالي: «أعتبر وفاة كل واحد من هؤلاء الأسلاف بمثابة حريق لمخزون ثقافي لم يتم استغلاله بعد». قالها في غرة ديسمبر 1960. وكان أمادو همباطي با آنذاك يمثل بعثة مالي لدى المؤتمر العام لليونسكو، إبان انخراط بلاده في المنظّمة كدولة مستقلّة. وقد أشاد في خطابه بـ«الآثار الشفوية الضخمة التي يجب إنقاذها من الاندثار بعد وفاة الأسلاف الذين ينفردون في الإلمام بهذا التراث والذين بلغوا خريف العمر».
تراودني فكرة: كنت أتمنّى، وأنا في سن المراهقة، أن يكون أمادو همباطي با هو جدّي. لكن النزاهة تقتضي مني أن أعترف بأن في تلك الحال لم أكن لأُصغي إلى نصائحه. إذ لم يكن يستهويني الشيوخ حاملي العبايات الأفريقية وذوي الشعر الأبيض والقيم التقليدية. بل كنت أدين مسبقا هذا العالم الذي كان يبدو لي سلبيا وعتيقا، وكنت أرفض مبدئيا قواعده. وكنت على خطأ فظيع.
إذا كان عالم اليوم، في أفريقيا أو خارجها، في حاجة ملحّة إلى رموز المعرفة مثل مؤلف »مصير فانغران الغريب»، فذلك يدل على أن القطيعة بين الأجيال قد حصلت. وأن الحلقة العائلية تقلّصت كثيرا. بل أن القاعدة الصلبة التي كانت تحمل اليقظة والتواصل لم تعد كما كانت من قبل.
شبابنا العزيز
قبل ست سنوات من وفاته عام 1991، وجّه هذا الكاتب المالي الكبير رسالة إلى «الشباب» كانت أشبه ما يكون بالوصيّة، يقول فيها: «إن مُحدّثكم هو من أوائل مواليد القرن العشرين». ثمّ يُضيف هذا التحذير: «أيها الشباب، أواخر مواليد القرن العشرين، إنكم تعيشون عصرا مُروّعا لما فيه من تهديدات على البشرية، وهو في ذات الحين عصر مُشوّق لما يتّسم به من إمكانات الانفتاح على مجال المعارف والتواصل بين الناس. سوف يشهد جيل القرن الحادي والعشرين تلاقحا رائعا بين الأجناس وبين الأفكار. وحسب طريقة استيعابه لهذه الظاهرة، فسوف يضمن بقاءه أو يتسبب في فنائه بانخراطه في نزاعات دموية. في هذا العالم الحديث، لن يتمكّن أحد من الاعتصام في برجه العاجي. كل الدول، قويّة كانت أم ضعيفة، غنيّة أو فقيرة، هي من هنا فصاعدا مترابطة اقتصاديا على الأقل، إن لم يكن في مواجهة مخاطر حرب دُوليّة. فالناس، أحبّوا أم كرهوا، مُبحرون على نفس المركب، وإن هب إعصار فسوف يهدد الجميع في نفس الوقت. ألا يجدر محاولة التفاهم بين بعضهم البعض والتعاون قبل فوات الأوان؟»
ويشجع حكيم بندياغارا الشباب الذي ينمو ويتكوّن في عالم ثنائي القطب حيث تتجابه الكتل وتُمزّق بعضها البعض، على أن يسعى شيئا فشيئا «لإبراز عقلية جديدة، مُوجهة أكثر نحو التكامل والتضامن، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى العالمي». ولا بد من التذكير تكرارا، بأن « في هذا العصر المليء بشتى أنواع التهديدات، على الناس أن يُركّزوا على ما يجمعهم بدل أن يركزوا على ما يُفرّق بينهم، مع احترام هوية كل منهم. في التلاقي مع الآخر والإصغاء إليه إثراء، حتى من حيث انتعاش الذات، أكثر من الصراعات أو النقاشات العقيمة لفرض وجهة نظر خاصة.»
وفي أسلوب بليغ ودقيق، يستعمل الكاتب المالي فن التشابيه الجذابة والهادفة، ليقول: «حياة الإنسان مثلها مثل شجرة ضخمة، وكل جيل هو بمثابة البستاني الذي يعتني بها.»، ثم يُضيف: «البستاني الماهر ليس ذلك الذي يقتلع الشجرة، وإنما هو من يقلم الأغصان الميّتة في الوقت المناسب ويقوم عند الاقتضاء بالتطعيم المفيد بشكل سليم. فمن يقتلع الجذع كأنما انتحر أو تخلّى عن شخصيّته ليتقمّص بتصنّع شخصية الغير دون أن يفلح أبدا في تحقيق ذلك على الوجه الأكمل. و في هذا الصدد، لنتذكّر المقولة المأثورة: «قد تطفو القطعة الخشبية التي بقيت طويلا في الماء، لكنها لن تُصبح أبدا تمساحا!». وهكذا «إن كانت أنفسكم ثابتة في جذورها، فسوف تكون لكم القدرة، دون خوف ولا ضرر، على الانفتاح على المحيط الخارجي، سواء للعطاء أو للقبول.»
ويُنبّهنا أمادو همباطي با، وهو المدافع عن المجتمع الأفريقي التقليدي ـ مع الإعتراف بـ«عيوبه وتجاوزاته ونقاط ضعفه» ـ إلى أن هذا المجتمع «كان، قبل كل شيء، يُمثّل حضارة تتّسم بالمسؤولية والتضامن على جميع المستويات» بما فيها البيئة، ويقول : «كان الإنسان يُعتبر أيضا مسؤولا على توازن العالم الطبيعي المحيط به. وكان يُحجّر عليه اقتلاع شجرة دون مُبرّر أو قتل حيوان دون سبب وجيه. فالأرض لم تكن تعتبر ملكا له، وإنما وديعة مُقدّسة عُهدت إليه من طرف الخالق، ويقتصر دوره على تسييرها». وفي عصر الأنثروبوسين، العصر الجيولوجي البشري الذي جاء نتيجة للقطيعة بين الإنسان والطبيعة، تدعونا عبرة أسلافنا إلى التساؤل الجدّي حول نمط الحياة الذي اتّبعناه، وهو نمط مُدمّر للتقاليد كما للمحيط.
الإنفتاح، والتنوّع، والحوار والتفاهم، تلك هي الركائز الأربع التي ترفع عاليا وبقوّة المعاني التي تتضمّنها هذه الرسالة الثمينة لأمادو همباطي با والتي حان وقت وضعها بين أيدي الشباب والكهول في أفريقيا وخارجها.
أمادو همباطي با ـ الراوي،ِ والكاتب، والشاعر، والعالم في الأنثروبولوجيا، والقائد الروحاني، والعالم في تأويل الأرقام، والدبلوماسي ـ يُعرّف بنفسه «كخرّيج جامعة الكلام الذي يُدرّس في ظل شجرة الباوباب». وبعد أن عبر مسالك غير مألوفة للصعود إلى المجالات الرفيعة للمعرفة، تعهّد بنقل المشعل إلينا، مهما كانت معتقداتنا، ولون بشرتنا وعمرنا.
الصورة أعلاه
سيروس كابيرو Cyrus Kabiru
اقرأ المزيد
أمادو همباطي با
أمادو همباطي با في رسالة اليونسكو
خارج أرض الظلال، عدد 5-1990
ألسنة على امتداد القرون، عدد 8/9-1979
الفن الأفريقي ذو الأيادي الصاغية، عدد 2-1976
الشباب في رسالة اليونسكو
الشباب يقود التغيير، عدد 3-2011
شباب 1985، عدد 6-1985
الشباب الأفريقي بين التقليد والحداثة، بقلم بوبكار لي، عدد 10-1981
شباب يستعد، عدد 4-1969
شباب يحمل أهداف، عدد 7 / 8-1965