خاتمة:

Desert near Abadeh, Iran © UNESCO

لقد أنجزنا ما أردنا إنجازه! فبعد أربعة أشهر، قطعنا طرق الحرير - أو بعضها على أي حال...



وبعد اجتياز حوالي 23000 كلم في ستة عشر بلداً وعبور عدد لا يحصى من المناطق الزمنية، وصلت رحلتنا إلى نهايتها وعدنا إلى بلادنا بملابس رثة وأذهان متعبة ولكن بآفاق أكثر انفتاحاً. وفي هذا الفصل الأخير من اليوميات، سنحاول التأمل في مغامرة العمر: رحلة عبر

 جزء من طرق الحرير، بدأت في البندقية وانتهت في بيجين، والتجارب المذهلة التي كانت حصيلتها.

وخلال الأشهر التي سبقت بدء رحلتنا، كثيراً ما سألنا الأصدقاء وأفراد العائلة: "ما هي طرق الحرير؟" وهذا التعبير الغريب البعيد المنال والمثير للمشاعر في آن واحد، ألهب خيال الناس في العالم أجمع لأجيال لا تعد ولا تحصى. وجميع النقاشات التي تناولت هذه الطرق التجارية القديمة الممتدة من خلال آسيا وأوروبا، تقريباً، تذكّر بالطبيعة الدقيقة جداً للمصطلح الذي وضعه الجغرافي الألماني البارون فون ريتشوفن: die Seidenstrasse أو طرق الحرير. واستخدامه للجمع هنا ملفت للنظر لأنه يُظهر إقراراً مبكراً بأنه ليس هناك طريق واحد يجتاز المناطق الواسعة التي تغطيها هذه التسمية، بل العديد من الطرق التي استخدمتها شعوب مختلفة في أوقات مختلفة على مر العصور والتي تربط الشرق والغرب. وأما في رحلتنا نحن، فقد قادتنا الخطى على مسار واحد فقط من هذه الطرق العديدة، ذهب بنا من أوروبا إلى تركيا، ثم مر عبر آسيا الوسطى عن طريق جورجيا وأذربيجان، ثم جال في أنحاء إيران وعدد من البلدان المنتهية أسماؤها باللاحقة "ستان" (أي "الأرض" باللغة الفارسية)، قبل أن ي

صل أخيراً إلى الصين.

وبطبيعة الحال، كان العديد من أحاديثنا يتطرق إلى موضوع مشاهير المستكشفين الذين اجتازوا هذه المسالك قبلنا. ورحلة ماركو بولو، التي استغرقت أكثر من 20 عاماً في أواخر القرن الثالث عشر، هي


 الأكثر شيوعاً بين الجماهير الغربية؛ ولكن ما يجهله الكثيرون هو أن الراهب الفرنسيسكاني الفلمنكي، وليام روبروك، استكشف طرق الحرير قبل عقود من ماركو بولو. وقد قطع الرهبان البوذيون الصينيون هذه الطرق في خلال حجهم إلى الهند، منذ القرن الخامس. وقلة أيضاً هم مَن سمعوا عن الدبلوماسي الصيني تشانغ تشيان، الذي أوفده إمبراطور بلاده في عام 139 قبل الميلاد في بعثة سياسية على طول طرق الحرير، والذي يعتبر على نطاق واسع أول مستكشفيها. وفي الفترة التي سبقت رحلتنا مباشرة، درسنا النصوص الكلاسيكية لهؤلاء الرواد بحثاً في أقوالهم عن بعض الحكم الخالدة. وعندما أُتيح لنا ذلك، 

اطلعنا أيضاً على أدب الرحلات لكتّاب ومؤرخين متمرسين من أمثال كولن ثوبرون وبيتر فرنكوبان في محاولة لفهم ما تعني لهم "طرق الحرير" وما قد يكون في انتظارنا عليها.

ولا يفاجأ أحد بأن الواقع الذي صادفناه لم يكن مطابقاً لتوقعاتنا. فلئن أعطانا بحثنا في ما توفر من أعمال أدبية وأفلام سينمائية لمحة عن طرق الحرير، فإنه وضعنا أيضاً، ربما، في موقع غير مناسب. فقبل انطلاقنا في رحلتنا، أيقظ مصطلح فون ريتشوفن "طرق الحرير" في مخيلة كل واحد منا صوراً مختلفة: صحارى قاحلة ومساجد كبرى وخانات تضج بالألوان. وهكذا، انطلقنا بأفكار مسبقة عمّا كنا نتوقع رؤيته على طول "طرق الحرير".

ومع تقدم هذه الرحلة، بدأنا ندرك القيود التي تفرضها هذه الصور المحددة ونعيد تدريجياً تحديد كيفية فهمنا لمصطلح "طرق الحرير". واليوم، خلافاً لتصوراتنا قبل بضعة أشهر، أضحى لدينا إدراك جديد لماهية الصور والمناظر على طرق الحرير وللأهمية البالغة التي اكتساها 

التبادل الثقافي في تطوير الهويات على طول تلك الطرق.

وكان التبادل الثقافي ركيزة قامت عليها أسفارنا بكل جانب من جوانبها. فمن حدود بلد إلى تخوم بلد آخر، كنا نعيش زوبعة من التفاعل بين الثقافات. وعلى الرغم من أننا عقدنا اجتماعات عديدة مع جهات التنسيق التابعة لمنصة اليونسكو الإلكترونية بشأن طرق الحرير، سرعان ما اتضح لنا أن فرص التبادل الفكري والثقافي متوفرة في أي مكان حولنا. ففي أحد أسواق سمرقند، روى لنا بائع متجول كانت عائلته تملك كشكه لأجيال، تاريخ المدينة بأكمله. وشرح لنا حارس في أحد المساجد في اسطنبول، حيث عمل طيلة حياته، تأثيرات المسجد المعمارية علينا، مفصّلا خصائصه التي تجعله مختلفاً إلى هذا الحد عن المساجد الأخرى في المنطقة. وفي إيران، رافقنا ميكانيكي كان قد أصلح سيارتنا في جولة لمدة يوم كامل في قريته، عبادة، وحدثنا بالتفصيل عن السبل العديدة التي تغير فيها مسقط رأسه خلال القرن الماضي. ولكن نقل المعارف هذا نادراً ما كان في اتجاه واحد. فكل شخص التقينا به وضعنا أيضاً تحت المجهر ودرس طريقة حياتنا وعاداتنا وتقاليدنا لمقارنتها بنظيراتها في بلدانهم. وفي هذه التبادلات، أكثر منه في أي مكان آخر، قُيِّض لنا أن نلمس لمس اليد الطابع المشترك للثقافات عبر طرق الحرير.

وأهم ما في الأمر أن أسلوبنا في السفر أجبرنا على إدراك الطابع المشترك للثقافات ومعرفة القواسم المشتركة التي تتجاوز الحدود بدلاً من أن تكون مقيدة بها. وأتاح لنا السفر براً معاينة التغيير تدريجياً. ففي حين أن السفر جواً إلى آسيا الوسطى من أوروبا قد يترك المرء 

 

مصدوماً لرؤية الأسواق الصاخبة في طهران أو أوش، قام انتقالنا البطيء في تلك المساحة الواسعة من الأرض بترويض أحاسيسنا وعقولنا. وبعد أن غصنا في الأدب للاطلاع على دور طرق الحرير في تشكيل تراثنا المشترك وثقافتنا المشتركة لم يخب ظننا ونحن نقطع هذه الطرق أن نعاين بأنفسنا تلك القواسم المشتركة. ومع ازدياد عدد الحدود التي اجتزناها، كان الانتقال من بلد إلى آخر يبدو لنا طبيعياً وسلساً مثل الأرض التي كنا ندوسها. لقد مكننا الطابع المدروس لهذا التغيير من تجاوز الاختلافات الواضحة القائمة بين مواطننا الأصلية وبين الأماكن التي زرناها، وأتاح لنا الركون إلى القواسم المشتركة بدلاً من الاختلافات.

لطالما أُعجب المستكشفون في الأزمنة الغابرة وفي يومنا هذا بطرق الحرير، وأَسَرهم هذا الإحساس المذهل بالتاريخ والمغامرة. ولئن وصلت مغامرتنا البرية التي غيرت مسار حياتنا إلى نهايتها في آخر الأمر، فإن معرفتنا بطرق الحرير قد بدأت للتو. ونتوقع، عند عودتنا من الصين، إعداد فيلم وثائقي قصير ونشر مقالات عن رحلتنا نعرض في كليهما استنتاجاتنا بالتفصيل. ونحن نأمل ونعتزم الحفاظ على علاقاتنا وتطويرها مع السكان المحليين والمنظمات والشباب الذين صادفناهم. لقد كتب بيتر فرنكوبان ذات مرة: "إن طرق الحرير تُبعَث من جديد"؛ وأما بالنسبة لنا وبالنسبة للغرباء الطيبين الذين التقينا بهم في أنحائها، فإنها لم تمت قط.

اقرأ المدونات السابقة هنا:

-        مقدمة

-        البندقية

-        البلقان

-        تركيا

-        جورجيا

-        أذربيجان

-        إيران

-        سمرقند

-        لغات آسيا الوسطى

-        أوش، قيرغيزستان

- شيآن

 

تم إعداد هذا البرنامج وتنفيذه بدعم من

أتصل بنا

مقر منظمة اليونسكو الدولية

قطاع العلوم الاجتماعية والانسانية

قسم البحوث وسياسات التخطيط المستقبلية

برنامج اليونسكو لطرق الحرير

7 Place de Fontenoy

75007 Paris

France

silkroads@unesco.org

تواصل معنا