يوميات المستكشفين الشباب: إيران والطريق الملكي
بعد أسابيع قليلة فقط من مغادرتنا غرب الأناضول في تركيا، نقف مشدوهين أمام المفاتن الطبيعية التي تطالعنا في بيرسيبوليس. ورحلة الـ 2400 كلم هذه (149 ميلاً) التي قادتنا من بحر إيجة إلى إيران كانت تعرَف سابقاً بالطريق الملكي الذي قيل إن عبوره سيرا ًعلى القدمين يستغرق 90 يوماً. والكثير مما نعرفه اليوم عن هذا الطريق الفارسي القديم الذي يعبر إيران الحديثة إنما جُمع من كتابات هيرودوت الذي صاغ هو نفسه مصطلح "الطريق الملكي". وقد بُني هذا الطريق تحت قيادة الملك الأخميني داريوس الأول في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان يربط المدن الرئيسية من سوسا في جنوب غرب إيران إلى سارديس، أي مانيسا الحديثة.
وقد تكون فكرة هذا الطريق السريع منبثقة من اعتبارات عسكرية وسياسية، إلا أن الطريق الملكي كان يقوم مقام حلقة وصل متكاملة على طُرق الحرير. وقد تعزز ذلك إلى حد بعيد من خلال تحديثه على يد الملك داريوس نفسه عبر إقامة نقاط تفتيش عسكرية منتظمة بالقرب من الخانات القائمة على طول الطريق. وبالتالي لم يكن بمتناول المسافرين مكان للنوم ليلاً وفرصة لتغيير الخيول فقط، بل كانت سلامتهم مضمونة أيضاً. وقد كفلت هذه الخانات المحمية استمرار استخدام الطريق من قبل الباعة والتجار عابري السبيل في السنوات التي تلت سقوط الإمبراطورية الفارسية. ومن بين الخانات الكثيرة التي مررنا بها خلال تجوالنا في أنحاء إيران، كان الخان الأكثر تميزاً يقع في قرية قرناق الطينية القديمة، على مبعدة 70 كيلومتراً (110 أميال) من يزد. وهنا التقينا صدفة بمسافرين من هولندا وهنغاريا واليابان، وتبادلنا معهم الحكايات وتقاسمنا الطعام، الأمر الذي أعطانا فكرة بسيطة عما كانت عليه الأمور في الخانات، ربما، في أيام طُرق الحرير.
وتجدر الإشارة إلى مدينة أصفهان التي كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية في فترات عديدة من التاريخ، وآخرها في عهد الصفويين. فقرار اتخاذ هذه المدينة عاصمة للإمبراطورية كان يعود إلى حد بعيد إلى دورها كمفترق طُرق للمسافرين المتجهين شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وإلى كونها مدينة ذات أهمية كبرى بالنسبة لطُرق الحرير. واليوم، لا تزال بقايا هذا الدور التاريخي ظاهرة للعيان ومتجذرة في المدينة، حيث يمكن أن يجد المرء بشكل منتظم في الساحة الملكية (ميدان نقش جهان/ميدان الإمام) أسواقاً من شتى الأنواع تبيع سلعاً منها المجوهرات، والسجاد على أنواعه، والمنتجات الغذائية وأكثر من ذلك بكثير، تماماً كما كانت عليه الأمور لقرون خلت. أضف أن البضائع الموجودة في هذا السوق تُنقل اليوم إلى مواقع أخرى لتباع فيها، وذلك في كثير من الأحيان باستخدام طرق وقوافل تذكّر بنظيراتها في غابر الأيام.
وكان الطريق الملكي يمتد من سوزا إلى الهند عبر بيرسيبوليس؛ ولقد أسعدنا الحظ بأن ندوّن، من هذا الموقع الرائع، القيد السادس من يومياتنا. ولئن أدهشتنا وفرة المواقع الأثرية منذ إقامتنا في تركيا الغربية، فإن بيرسبوليس لا تزال أكثر معالم رحلتنا إثارةً حتى الآن. والتلة التي تطل على الموقع بأكمله هي المكان الوحيد الذي يمكن منه استيعاب اتساع الأفق والعظمة التي لا تضاهى اللذين جعلا من بيرسيبوليس الجوهرة الثمينة للإمبراطورية الأخمينية. ولقد كانت بيرسيبوليس، التي صممها داريوس الكبير، تجسيداً لركائز التسامح الثقافي والديني الفارسية. ويظهر هذا التسامح واضحاً في التأثيرات المعمارية المتنوعة المصادر التي يراها المرء في جميع أنحاء المدينة في الهياكل والسلالم والبوابات التي صممها مهندسون معماريون من أقاصي الإمبراطورية الفارسية.
كتب هيرودوت: "لا شيء في العالم يسافر [على هذه الطُرق] أسرع من هؤلاء السعاة الفرس". ونحن نتساءل عما قد يكون رأيه بقطارات الشحن الأخيرة التي وصلت من مقاطعة تشجيانغ الصينية التي تقع على مبعدة 10689 كيلومتراً (6464 ميلاً) إلى طهران في 14 يوماً فقط. وعبّرت عناوين الصحف الإيرانية أيضاً عن انبهارها بإنجاز ممر النقل بين الشمال والجنوب، الذي يربط إيران بأذربيجان، والذي سيربط الهند بروسيا في نهاية المطاف، عبر إيران. ويمكن للمرء أن يتصور فقط فرحة داريوس الكبير إزاء قيام إيران الحديثة بالاقتداء بالطريق الملكي الذي يعود إلى القرن السادس لإحياء طُرق الحرير. وقد تمكنت الحضارات القديمة في إيران، من خلال إقامة الطرق البرية، من التعاون مع البلدان القريبة والبعيدة في قضايا تتراوح من الثقافة إلى التجارة. وهذه الطرق نفسها هي التي وضعت الأسس لبناء طرق الحرير. والمستقبل وحده كفيل بالقول ما إذا كانت مشاريع إيران الجديدة سيكون لها نفس التأثير الدائم الذي كان للمشاريع التي نُفذت أيام طرق الحرير.
انقر هنا لقراءة القيود السابقة في اليوميات:
اقرأ المدونات السابقة هنا:
- مقدمة
- البندقية
- البلقان
- تركيا
- جورجيا
- أذربيجان