بناء السلام في عقول الرجال والنساء

أفكار

أهميّة قصص السّكان الأصليين

cou_02_17_6.jpg



© Cosmo Whyte
إنّ تركيز التعليم على العلوم الدقيقة والتقنيّة باعتبارها مجالات تضمن دخلا مرتفعا، من شأنه أن يهدد شعوب جمايكا ومنطقة بحر الكاريبي  في قدرتها على سرد  تاريخها وإبرازه، في حين أنه ضروري في نقل المعارف وفي المسار التنموي.

جون أيوتوندي ايزولا بيواجي

سعت البشريّة جاهدة، منذ القدم، إلى فهم الحياة بجميع أبعادها والعالم الذي يحيط بها. وحتّى تدرك حقيقة محيطها وتتمكن من وصفه، استخدمت البشريّة اللّغة والأدب والفلسفة والتعليم والدين والفنون والتاريخ والأنتروبولوجيا وعلم الآثار وعلم الإجتماع، بل وكذلك الإقتصاد وعلم النفس والإعلام والتنمية والرياضة والنوع الجنسي والماليّة والتجارة والعلوم السياسية والدراسات البيئية ودراسات الإتصال والدراسات الثقافية والقانون. وقد صنّفت بعض هذه التخصصّات كعلوم إجتماعية بسبب الحاجة إلى المصداقيّة العلمية، ولكني على يقين من دورها أيضا في العلوم الإنسانية.

وباستخدام اللّغة، أنتج البشر قصصا خاصّة بهم كانوا يفضّلونها على القصص الآتية من مناطق أخرى. فجميع الحضارات متمسكة بالروايات التي تجسّد ثقافاتها وأنظمتها المعرفية وأنماط العيش التي ابتكرتها.
وقد كان لثلاثة أحداث رئيسية تأثيرا كبيرا على المكانة التي احتلتها العلوم الإنسانية في جامعات الغرب : الثورة العلميّة، الثورة الصناعيّة، والمنطقيات [المدرسة الحديثة لفكر الرياضيات التي أسسها الفيلسوف الألماني وعالم الرياضيات فريدريك لودفيغ غوتلوب فريغ (1884-1925) .[وهي نظرية ترتكز على تطبيق قواعد علم المنطق في مجالات خارجة عن المنطق].

وقد ولّد اقتران الثورتين العلميّة والصّناعيّة نظرية الوضعيّة المنطقيّة والقناعة بأنّ كلّ مسعى وراء المعرفة يجب أن يستخدم المنهجية العلمية وإلّا فإنّه يفقد صلاحيته وأهمّيته. وكان لذلك عواقب وخيمة على التراث الفكري لدى المجتمعات غير الأوروبيّة التي كانت تعتبر في كثير من الأحيان بدائية وغير حضارية ووثنية ومتخلّفة. مما أدّى إلى تبرير استيلاء تلك المجتمعات الأوروبيّة على جميع الموارد الإقتصاديّة للمجتمعات المحليّة، من خلال الإستعمار والإسترقاق.

اقتلاع من الجذور

إنّ أسوأ مناهج المعرفة هي تلك التي جعلت من قصص أوروبا (والجزيرة العربية) حقائق كونية، وأحلّتها محلّ روايات المجتمعات الأصليّة في العالم بأسره. وهذا يفسّر جهل الأفارقة بأسلافهم. فهم يستخدمون أسماءَ ولغات وأديانَ وعلومَ وتكنولوجيات غيرهم، إلى درجة أنهم ينسون - بل وفي بعض الأحيان يكرهون - نظم معارفهم الأصلية، وطرق العيش الخاصة بهم، وقيمهم الروحيّة وفلسفتهم في الحياة، فيتيهون في عالم غريب عنهم.

ويثير هذا الوضع عدّة تساؤلات. أوّلا، أدّى التصنيع إلى عولمة جميع الحقائق. إنّ العولمة أمر لا مفرّ منه، لكنها لا يجب أن تحول دون استغلال شعوب منطقة البحر الكاريبي لتراثها الإفريقي لإضفاء معنى على وجودها والسير نحو حياة حضارية. ليس من الضروري مكافحة العولمة، ولكن يمكن إثراؤها عبر الإستفادة من الثقافات التاريخية الموروثة من الأجداد.

ثمّ إنّ الدعوة إلى تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات قد خلقت حتميّة مشوّهة ألا وهي اعتبار الإختصاصات الأخرى التي تبدو خالية من الأرباح الملموسة المباشرة للمجتمع، لا فائدة فيها. ففي جمايكا وفي جزر الهند الغربية، جرى التركيز على العلوم والتكنولوجيا والعلوم الإجتماعية في مراحل التعليم الإبتدائي والثانوي والعالي. في المقابل، تم تقليص المواد الأخرى مثل الفنون الجميلة والموسيقى والأخلاقيات والتاريخ والثقافة والتراث، إن لم يتمّ حذفها تماما، في جميع مراحل التعليم، بداعي أنهّا لا تساهم في التنميّة البشريّة.

وفي جامعة جزر الهند الغربية، وهي جامعة مشتركة بين سبعة عشر بلدا في منطقة الكاريبي، أدّى التركيز على العلوم الدقيقة إلى انحدار جاذبية كليّة العلوم الإنسانيّة والتربويّة إلى أقلّ من 25٪ من مجموع الطلاب، لأنّ مساهمة المواد التي تدرسها في التنميّة الوطنية والإقليميّة لم يتم تقييمها على أساس سليم. وقد نشرت صحيفة غلينر الجمايكية عدّة مقالات افتتاحية تطالب فيها الحكومة بالكفّ عن تمويل مواد التاريخ واللغات والفلسفة والفنون. وبدلا عن ذلك، اقترحت الصحيفة التركيز على تلك المجالات التي تمكن جمايكا والمنطقة من الإلتحاق بركب العالم المتفوق في مجال التكنولوجيا. وتمضي الصحيفة قائلة إنه لا داعي إلى معرفة أنفسنا، أو الواقع والمجتمع الذين ننتمي إليهما، أو من كانوا أسلافنا، فبمجرد الحصول على التكافؤ التكنولوجي مع الغرب، سيكون كل شيء على ما يرام.

وتتعلّق المسألة الثالثة بتراجع العائدات الماليّة على المستويات الوطنية والإقليميّة والفردية. فالتعليم، وخاصّة ما يتّصل منه بالإنسانيات، يذهب عادة ضحية التعديلات الهيكليّة. والأسر والأفراد يفضّلون الإستثمار في اختصاصات «قابلة للتسويق والإنتاج وتعزيز سيرة العمل الذاتية»، مثلهم مثل الدول التي تعتبر أنّه ينبغي التركيز على تدريس العلوم والهندسة والطب والتكنولوجيا، اعتقادا منها بأنّ هذه الإختصاصات تزيد من القدرة على الإنتاجيّة.  

الهويّة والتراث

إنّ دراسة العلوم الإنسانيّة ضروية لأي مجتمع حتى يتمكن من تثمين قيمته، وبلورة كينونته وتصور هويته في المستقبل. وإن أهمل المجتمع فهم العلوم الإنسانيّة وتقديرها ونشرها، فسيكون عرضة لكل أشكال التعسف، ولتدهور تراثه ولاستيلاء الآخرين على جوهره. وقد أدّى تكبيد الشعب الأفريقي بما يسمّى بداء «مبيد المعرفة» (قتل نظم المعرفة أو تدمير المعرفة الموجودة) وإيهامهم بأن «خزينتهم فارغة»، إلى تجريد أهالي العالم الجديد ذوي الأصول الإفريقية من هوياتهم وتراثهم، ليصبحوا أفرادا مرتبكين ومشوشين. إن تفشي العنف وانعدام الآداب في المجتمع الجمايكي لتعبير على هذا الوضع. وعلى الرغم من تجاوز جمايكا التوقعّات في جميع المجالات، الّا أنّه لا يزال هناك تفضيل عام للتوجّه الأوربي-الغربي.
لقد ذهب التفكير السائد في جامعة جزر الهند الغربية ضحيّة للظروف التاريخية التي دوّنها الأستاذ الجمايكي إيرول ميلر: التبعيّة الإقتصادية للجهات التي تم إلغاء العبودية وتحرير العبيد فيها. هذا هو السبب الذي جعل الجامعة تفشل في تبنّي النماذج التعليمية السليمة التي تعتمد على تعليم العلوم الإنسانيّة بغض النظر عن المرابيح الفورية والملموسة التي تولّدها.
ما انفكت منظمة اليونسكو تقوم بدورها الرّائد في دعم عالم أكثر إنسانيّة، حيث يتم تثمين قيمة تفعيل العقل والتأمل والتنوّع. لكن، أمام التشبث برفض دفع تعويضات للشعوب التي عانت من أسوإ أشكال اللاإنسانية في تاريخ البشرية من خلال أهوال الإسترقاق الأطلسي، ليس من الغريب أن تبقى بلدان منطقة البحر الكاريبي مستجدية للمساعدات، وعاجزة عن اتخاذ القرارات التي من شأنها إنقاذ مواطنيها من البؤس. وفي ذلك ربما يكمن سبب ارتفاع معدل جرائم القتل في جمايكا وهو من أعلى المعدلات في العالم، بالرغم من كونها مسقط رأس ماركوس موسيا غارفي (زعيم سياسي، ناشر وصحفي، رائد للحركة القومية الإفريقية [1887-1940]) وموسيقى الريغي [نمط من الموسيقى نال استحسانا عالميا]، وحسين بولت، بطل الألعاب الأولمبية في السباق.


Young men in front of a mural in Tower Hill, Kingston, Jamaica.

 
© Francesco Giusti / Prospekt

الحلّ : تدريب المعلّمين

كيف يمكن تحسين تعليم العلوم الإنسانيّة في جمايكا ومنطقة البحر الكاريبي؟ ينبغي بداية تعزيز مشاريع اليونسكو في مجال تكوين المعلمين وتطويرها، وذلك بتكليف جامعة جزر الهند الغربية بالإضطلاع بدور ريادي في مجال تعليم العلوم الإنسانيّة. ولا بد من إنشاء قسم أو معهد مخصّص للدراسات الفلسفية، مهمته تكريس التفكير النقدي في العديد من المواد الأخرى، مثل الأعمال والسياحة وحل النزاعات والبيئة.

ومن المهّم أن تدرّس العلوم الإنسانيّة في مؤسّسات التعليم الإبتدائي والثانوي وما بعد الثانوي في جمايكا وفي المنطقة، لأنّ لبنات بناء السلام تأخذ مكانها في عقول الناس. لقد تجاوزت الأساليب الثقافية والموسيقية من أصل جمايكي شواطئ جمايكا وأثّرت في العالم بأسره، ولكن لم يبذل أي جهد لنشر هذه التقاليد وتطويرها لدى شباب جمايكا. في حين يجدر استخدام هذه المعرفة لدعم طاقاتهم الإبداعية وتأمين استقلالهم الإقتصادي.

وأخيرا، من المهم أن نفهم أنّ العلوم الإنسانيّة هي ركيزة كل الإنتاج المعرفي – سواء في ما يتعلق بالمعالجة، أو التخزين، أو التجميع، أو النشر أو التطبيق. إنّ البلدان الغنية والقويّة لا تترك تعليم مواطنيها بين أيادي الغير. وبالمثل، يجب على المجتمعات الضعيفة والفقيرة أن تكون على وعي بأهمية إنتاج قصصها المحليّة والسهر على بثّها في المجتمع بطريقة سليمة، وفي ذلك منفعة  للإنسانية جمعاء، تكريسا لتنوّعها الرائع.

جون أيوتوندي ايزولا بيواجي

جون أيوتوندي ايزولا بيواجي (جمايكي ولد في نيجيريا) هو مؤلّف لعديد من الكتب، من بينها القانون والحوكمة في مجتمع ياروبا الأصيل – مقال في الفلسفة الإفريقية. كما كان محررا في العديد من النشريّات منها المجلة الكاريبية للفلسفة.