بناء السلام في عقول الرجال والنساء

زاوية كبرى

منارة بفضل النّات

cou_02_17_dada_02.jpg

“It is impossible to photograph a subject with objectivity, but it is possible to show a story with truth,” says Juan Carlos, who took this photo of a bench that bears traces of a murder in a public park in Chalchuapa, El Salvador
© Juan Carlos
تمرّ الصحافة بأزمة عالمية بسبب النفاذ السهل للإنترنت والشبكات الاجتماعية وما انجرّ عنه من إشاعات وأخبار زائفة. والحال أن هذه الفضاءات وهذه الأدوات بالذّات من المفروض بل ومن الواجب أن تُسخّر في سبيل صحافة أفضل، كما تبيّنه تجربة صحيفة الفارو السلفادورية الرائدة في مجال النات. وفي ما يلي عرض لمسارها على مدى عشرين سنة.

كارلوس دادا

عندما اقتحمنا ميدان الصحافة، كنّا نوعا ما، مُكرهين ومُجبرين. ففي سنة 1998، إبان انتهاء حرب أهلية طويلة في السلفادور، انطلقنا على غير هدى، نظرا لعدم وجود شخصية قيادية في صفوفنا. لكننا كنا على يقين بأن الوضع بعد الحرب يتطلّب نظرة جديدة وأصواتا مُستقلّة لإنعاش المشهد الإعلامي الوطني : كانت البلاد تستحقّ صحافة جديدة، فاستجبنا لذلك.

أُنشئت الفارو (المنارة) في مايو 1998 بدون أية إمكانيات. وهو السبب الذي جعلنا ننشرها عبر الإنترنت، في زمن كانت نسبة عدد المواطنين السلفادوريين المستخدمين للشبكة تتراوح بين 2 و5%. وإن التجأنا آنذاك إلى التكنولوجيات الحديثة لنفرض ذاتنا، فلأننا لم نكن قادرين على تحمّل تكاليف إنتاج صحيفة مطبوعة. كان الإنترنت ملاذنا الوحيد. وكنا محظوظين إذ لم نكن نتوقّع أبدا آنذاك ما سيكون  للواب من تأثيرعلى مصير البشرية.

في البداية، كنا نُنجز الفارو أثناء أوقات فراغنا، ثمّ التحق بنا شيئا فشيئا شبّان موهوبون راغبون في التعلّم ضمن هذه المؤسسة الإعلامية من النوع الجديد. لم نُسجّل أية مرابيح طيلة عدّة سنوات، لكن مصاريفنا كانت ضئيلة، إذ كان كلّ واحد منا يعمل في بيته مجانا. وهو ما دعّم فينا روح الاستقلالية. وعندما بدأ عالم الصناعة يأخذ الإنترنت بمحمل الجد وبدأ القرّاء يغوصون في الشبكة بحثا عن الأخبار، كنا قد ركّزنا أنفسنا بثبات.

في غياب ذوي الخبرة في مجال الصحافة واستحالة الإستفادة من التجارب السابقة، التجأنا إلى ممارسة القراءة، مشفوعة بالنقد الذاتي. وإن بلغت صحيفتنا قدرا من النضج فذلك بفضل الدروس التي استوعبناها من أخطائنا ومثابرتنا على التفكير والنقاش حول ممارستنا.

من هم خونة الوطن؟

وأفضى هذا النشاط التطوّعي والمعزول إلى تأسيس مكتب بأتمّ معنى الكلمة. وأصبح العديد من طلبة الصحافة، ممّن تعاونوا معنا منذ البداية، مُشاركين في ملكية الصحيفة وأصحابَ أسهم فيها. وبعد ما يُناهز العشرين سنة، أصبحت الفارو إحدى المؤسسات الإعلامية الأكثر حظوة في أمريكا اللاتينية، لما تمتاز به من جودة في الأداء.

نخصّص الجزء الأكبر من نشاطنا إلى الصحافة الاستقصائية والسردية، وذلك بتغطية ستة محاور : العنف والجريمة المنظّمة، والفساد، وجرائم الحرب، والثقافة، والفقر واللّامساواة، والسياسة. وهذه المواضيع، حسب رأينا، قلّما يقع تناولها، رغم أنها ضرورية لتفسير أسباب بقاء السلفادور، بعد عشرين سنة من انتهاء الحرب فيها، أكثر الدول عنفا في العالم. دولة ينخرها التفاوت والفقر وهي رهينة الأموال التي يقوم بتحويلها مليونان من السلفادوريين الذين يعيشون في الخارج، والذين يُمثّلون ثلث الشعب.

والغريب في أمر مهنتنا أنه بقدر ما نتفانى في إتقانها بقدر ما يتقلص عدد أصدقائنا. وقد كنا عرضة لاتّهامات عديدة : خيانة الوطن، وحماية العصابات، ومعاداة الملكية الفردية أو الثورة. وبما أن المشهد السياسي في  بلادنا مُستقطَب بين جهتين من المُتطرّفين الذين قاموا بالحرب، تتّهمنا حكومات اليمين بأننا يساريّون وحكومات اليسار بأننا يمينيّون. وقد وصلتنا رسائل تهديد من تجّار المخدّرات ومن مجرمي الحرب ومن رؤساء العصابات ومن سياسيين فاسدين ومن قادة في الجيش وفي الشرطة. مما حملنا في العديد من الحالات إلى الإلتجاء إلى القضاء.

وتصلنا أيضا في بعض الأحيان رسائل استياء من طرف قرّاء خاب أملهم في عملنا معتبرين أنه لا يتطابق حسب نظرهم مع ما هو ضروري للبلاد. وكنا نشرنا، منذ بضع سنوات، تقريرا صحفيا يُندّد بالمجزرة التي اقترفتها الشرطة دون تردّد، ذهب ضحيتها شبان منحرفون. فكان أن اتّهمنا عديد القراء بعرقلة عمل أجهزة الأمن، لأن العصابات هي أكبر مصدر للعنف في السلفادور. وإن كنا نتفهّم أسباب ردود الفعل هذه، إلّا أننا لا نقبل بتوجيه عملنا الصحفي للاستجابة لانتظارات القراء أو التخفيف من قلقهم. لأن الصحافة الشعبويّة هي صحافة غير مسؤولة بقدر ما هي مُضرّة ولا أخلاقية.

منتدى أمريكا الوسطى

وفي الفترة الأخيرة، حاولنا توسيع تغطيتنا للأحداث لتشمل الهندوراس وغواتيمالا، وهي دول مجاورة تُعاني نفس القدر من العنف والفساد والاحتقان الاجتماعي. ورغم أننا لم نتوصّل بعد إلى القيام بذلك بالشكل التام المنشود، إلا أننا تقدمنا في بناء شبكة تُمكّننا من إجراء تحقيقات بالإشتراك مع بعض الصحفيين في تلك الدول.

وبعد عقدين من التقدّم، أصبح العديد منّا في الفارو ينشر الكتب، وينشط في الإذاعات، ويُنجز الأشرطة الوثائقية، ويُقيم المعارض، ويُلقي المحاضرات. إذ نشعر بالحاجة إلى نقل معارفنا إلى الأجيال الجديدة.

ولهذا الغرض، نقوم في شهر مايو من كل سنة بتنظيم منتدى للصحافة في أمريكا الوسطى على امتداد أسبوع، يتمثّل في ورشات ومحاضرات ومعارض، نستقبل فيها عشرات المدعوّين القادمين خصّيصا من كافة دول أمريكا اللاتينية ومن الولايات المتحدة ومن أوروبا.

ويقوم الصحفيون أصحاب الخبرة في المنطقة ومن دول أخرى بإدارة ورشات حول الصحافة الاستقصائية، والصحافة الإذاعية، والتصوير والتحرير. ولقد شارك هذه السنة في تلك الورشات أكثر من مائة صحافي شاب أتوا بالخصوص من أمريكا الوسطى.

يمثل منتدى أمريكا الوسطى الحدث الأبرز في برنامجنا القار للتكوين والمحاضرات. والهدف منه تحسين أداء الصحافة في أمريكا الوسطى، المنطقة الأكثر فقرا في القارّة، وربط الصلة بصفة مستمرّة بين الصحفيين في كافة أنحاء أمريكا اللاتينية. هذه هي طريقتنا في المساهمة في خلق شبكات جهويّة من شأنها أن تُوفّر امكانيات جديدة للتعاون في معالجة المشاكل التي ما فتئت تجتاز حدود دولنا يوما بعد يوم.

كارلوس دادا
كارلوس دادا صحافي من السلفادور. أسّس الفارو سنة 1998. تولّى تغطية أحداث العراق والفينيزويلا والمكسيك وغواتيمالا والهندوراس. تُنشر مقالاته في أمريكا اللّاتينية، وفي الولايات المتحدة، وفي البوسنة، وفي إسبانيا. أُسندت له سنة 2011 جائزة ماريا مورز كابوت لجامعة كولومبيا بنيويورك.