
الموضة الأخلاقية : مجرّد صيغة بلاغية أم حركة تغيير شامل؟
cou_01_22_idea_ethical_fashion_web.jpg

بدافع تحسيس عدد متزايد من المستهلكين، تحاول صناعة الموضة، بدرجات متفاوتة من الصّدق، أن تظهر بأكثر ما يمكن من التعفّف والاستدامة. غير أنه، رغم المبادرات الهادفة إلى تحسين إعادة تأهيل الملابس المستعملة، أو تشجيع التّبادل، أو تطوير ظاهرة الإيجار، فإن التّقدّم المحرز في هذا القطاع الشّديد التلوّث يبقى متواضعاً.
أوليفيا بينوك
صحفية مختصّة في موضة الأزياء، مقيمة في لندن
تَعرُض اليوم جميع متاجر الملابس سِلعًا تحمل علامات "بيو" أو "نباتي" أو "مُرسكل" (معاد التصنيع). لكن رغم هذه الرغبة الْمُعلنة في جعل الموضة أكثر مسؤولية تّجاه البيئة، تظلّ هذه المحاولات محدودة الفاعلية.
ولعلّ الأرقام كافية لوحدها للتّدليل على ذلك. فحسب تقرير صادر في أغسطس 2020 عن كلٍّ من أجندة الموضة العالمية Global Fashion Agenda، وهي منظمة تنتمي إلى القطاع المختصّ في التّنمية المستدامة، والمكتب الاستشاري ماك كينساي McKinsey، فإن قطاع الموضة إذا ما واصل جهوده في إزالة الكربون، سوف تقف الانبعاثات عند سقف 2.1 مليار طن سنويًا بحلول سنة 2030، أي نفس مستوى سنة 2018، وهو ما سيمثل %4 من إجمالي الانبعاثات في العالم.
بعض البلدان شرعت، بنجاح نسبي، في اتّخاذ مبادرات للتّقليص من أثر هذه الصّناعة على البيئة. وفي هذا الصّدد، تمّ سنة 2012 في المملكة المتحدة، باعتبارها أكبر مستهلك للموضات في أوروبا، إطلاق خطّة عمل لصنع الملابس المستدامة Sustainable Clothing Action Plan، جمعت 90 علامة تجارية بريطانية تمثّل ما يقرب من %50 من مبيعات الملابس في البلاد. وحدّدت هذه الماركات لنفسها هدفًا يتمثل في تقليص مساهمتها في النّفايات بنسبة %3.5، والنّزول بحصّة الملابس التّالفة في النفايات المنزلية إلى %15 بحلول سنة 2020. غير أنّ النّتيجة لم تتجاوز، حسب تقرير نهائي، سوى %2.1 فيما يخصّ تقليص الأثر على النّفايات، و%4 من حصة الملابس في النفايات المنزلية.
69% من الأشخاص أصبحوا يأخذون بعين الاعتبار التّداعيات على البيئة عند شراء الملابس
الطّريقة التي نصنع بها سلع الموضة، ونستهلكها، ونتخلّص منها خاطئة بالأساس
ومع ذلك، فإن المستهلكين يُبدون حساسية متزايدة تجاه معيار الأخلاق، خاصة منذ تفشي وباء كوفيد -19. وقد زاد في تعزيز هذا الاتّجاه الوقت الذي قضّيناه في التّفكير في ترابط العالم ببعضه البعض، وفي قِيَمِنا والكيفيّة التي يمكننا بها بناء مستقبل أفضل. فوفق تحقيق عالمي لقرّاء مجلة "فوغ" Vogue، ارتفع عدد الأشخاص الذين صرّحوا بأنّهم يأخذون بعين الاعتبار التّداعيات على البيئة، عند شراء بضاعة موضة، من %65 في أكتوبر 2020 إلى %69 في مايو 2021.
فإذا ما اعتبرنا أنّ العلامات التّجارية للأزياء اتّخذت الإجراءات اللّازمة لتنقية نشاطها، وأنّ غالبية المشترين على استعداد لدعمها، يظلّ السّؤال مطروحا عن سبب فشل الموضة في التخلّص من سمعتها السيّئة كواحدة من أكثر الصناعات تلويثًا في العالم. والجواب هو أن الطّريقة التي نصنع بها سلع الموضة، ونستهلكها، ونتخلّص منها خاطئة بالأساس.
الرّغبة في الانتماء واحترام الذات
يُلبّي اللّباس حاجة إنسانية أساسية، فلا غرابة إذن أن يزداد استهلاكه بنفس سرعة النموّ السّكاني. لكن هذه الحاجة أبعد من أن تلخّص علاقتنا باللّباس، إذ تتجلّى رغبتنا في الانتماء في ارتداء ملابس مشابهة لملابس نُظرائنا؛ ويرتبط احترامنا لذواتنا وثقتنا في أنفسنا، جوهريًا، بالملابس التي تجعلنا نشعر بالأريحية. وقد نذهب إلى حدّ محاولة كسب احترام الآخرين بفضل العلامات التّجارية التي نرتديها. كما يمكن أن يكون ارتداء الملابس نوعا من التّعبير الشخصي والإبداع. غير أنّ صناعة الأزياء تلاعبت بهذه الاحتياجات، تحديدا، لبيع المزيد من السّلع وتسجيل ارتفاع مذهل للإنتاج خلال العقود الأخيرة.
هذا، وقد كان لتغيّرات المشهد الجغراسياسي والتكنولوجي، أيضا، دور في دعم هذا النموّ. ففي الثّمانينات والتّسعينات، بدأت العلامات التجارية للأزياء الغربية تنقل تدريجياً إنتاجها نحو آسيا، حيث اليد العاملة أقلّ كلفة. ونتيجة لانخفاض أسعار الملابس، ازدادت شراءات المستهلكين وأصبحوا يَقْبَلون بجودة أدنى، إذ أصبح من السّهل استبدال الملابس المنخفضة الثّمن. وفي السّنوات 2000، أتاحت الإنترنت لمُحبّي الموضة القيام بشراءات على مدار 24 ساعة في اليوم لدى عدد أكثر تنوّعا من المتاجر. وأخيرا، أتاح تطوّر شبكات التّواصل الاجتماعي الفرصة للعلامات التجارية لترويج منتوجاتها على مدار 24 ساعة في اليوم وكامل أيام الأسبوع.
إنتاج الملابس تضاعف بين سنتي 2000 و2014
والنتيجة، تضاعف إنتاج الملابس بين سنتي 2000 و2014، حسب ماك كينزي، وارتفاع عدد الملابس المقتناة لكل فرد بنحو %60. مع الإشارة إلى أن وتيرة تجديد المجموعات قد تسارعت. فالعلامات التّجارية الكبرى، التي اعتادت إصدار مجموعتين في السّنة، أصبحت تعرض كل أسبوع نماذج جديدة. وسرعان ما أصبح متاحا لمواقع البيع على الأنترنت أن تعرض، يوميا، على المستهلكين من جيل زاد Z آلاف المنتجات الجديدة.
هذه الزّيادة المذهلة في الإنتاج نتج عنها ضغط هائل على الموارد الطبيعية مثل القطن، والأراضي والمياه اللّازمة لزراعتها بالخصوص، وكذلك على الطّاقات الأحفورية لإنتاج البوليستر. وفي الآن ذاته، ازداد إنتاج النّفايات سواء في مستوى سلسلة التزوّد أو في نهاية عمر الملابس، كما ارتفعت انبعاثات الكربون على نحو كبير.
جينز للإيجار
ومع ذلك، يُوجد مسلك آخر أكثر مصداقية لإعادة التفكير في الطريقة التي يمكن أن ننتج بها الملابس ونستهلكها.
فمن السّهل وضع منظومة لإعادة تأهيل الملابس المستعملة، شرط أن يتمّ تحسين البنية التحتية التي تسمح بجمعها وتحويلها إلى ملابس جديدة. والعلامات التجارية التي تستخدم مواد مرسكلة عادة ما يكون لها نظام خاص بها لاستعادة الملابس وكذلك الكماليات. وتُعتبر "مود جينز" MUD Jeans، وهي شركة مُنتصبة في هولندا، واحدة من أكثر الشّركات ابتكارًا، إذ يسمح نموذج التأجير فيها للحرفاء بدفع ثمن الجينز على أقساط شهرية بقيمة 9.95 يورو على مدار 12 شهرًا، وهو ما يخوّل الحصول على نماذج جديدة من الأزياء عالية الجودة والمستدامة بأكثر سهولة. وبعد مرور 12 شهرًا، يمكن للحرفاء الاحتفاظ بجينزهم أو إعادته أو استئجار جينز جديد، مما يسمح لهم بتلبية حاجتهم في تجديد ملابسهم. وبعد ذلك يُعاد تصنيع كافة الجينزات المسترجعة لتتحوّل إلى جديدة يتم بيعها أو تأجيرها من قبل العلامة التجارية.
أمّا منصّة "سبين" SPIN المجتمعية التي أنشأتها شركة لابلاكو الإيطالية، فتُوفّر للخواصّ حلولًا لإطالة عمر ملابسهم، إذ يمكنهم استبدالها أو تأجيرها أو إعادة بيعها إلى علامات تجارية، مما يتيح لهم الوصول إلى خزائن ملابس متنوّعة لأشخاص من جميع أنحاء العالم.
موضة ما بعد الجائحة
من جهة أخرى، يشهد بيع الملابس المستعملة ازدهارًا حقيقيّا. وحتى العلامات التجارية التي لا تبيع عادة سوى السّلع الجديدة تبنّت هذا المنهج حتى تُعطي لنفسها صورة الشّركات الفاضلة وتحقّق أرباحا في ذات الوقت. فشركة روفلوانت Reflaunt المنتصبة في سنغافورة، أنشأت برمجية تمكن أيّ علامة تجارية من ربط موقعها على الواب بهذه البرمجية حيث توفّر للحرفاء إمكانية استبدال الملابس غير المستعملة لهذه العلامة. وبمجرّد بيعها، يتلقّى الحرفاء رصيدًا يمكن استخدامه في المتجر. ومن بين حرفاء روفلوانت، نذكر الدار الفرنسية للملابس الجاهزة والفاخرة بالانسياغا Balenciaga، والعلامة التجارية السويدية الراقية كوس Cos.
إنّ أغلبية هذه الأفكار ليست جديدة. فاستئجار الرّجال للملابس الخاصّة بالمناسبات أو الاحتفالات موجود منذ فترة طويلة، فضلا عن سوق الملابس المُستعملة التي توفّر حاجيات الباحثين عن ملابس غير جديدة. لكن التكنولوجيا تسمح بنشر هذه الأنشطة على نطاق أوسع وأسهل إضافة إلى إشراك الأشخاص ذوي الخبرة في الموضة والذين يجعلونها أكثر جاذبية للجمهور الحريص على أناقته.
إن فترة ما بعد الجائحة لم تؤثر فقط على الطريقة التي نرتدي بها لباسنا بل حملتنا على إعادة النّظر، على نحو عميق، في علاقتنا بالموضة. فالنجاح التّجاري لا يجب أن يرتبط بإنتاج عددٍ مُتزايد من البضائع، بل يجب أن تصبح الملابس المستعملة مورداً بدل من أن تكون مجرّد نفايات. ومثل هذا التحوّل يفترض التحلّي بسلوك أكثر مسؤولية وتواضعا من قبل المستهلكين. وقتها فقط يمكن تسجيل نقلة في اتّجاه موضة للأزياء أكثر إيجابية واستدامة.
مطالعات ذات صلة
من المستفيد من استغلال التراث "العرقي"؟، رسالة اليونسكو، يناير - مارس 2021
بيبي روسال أو الأنامل السحرية، رسالة اليونسكو، أبريل - يونيو 2018
الفادي يرفع راية الإبداع الأفريقي، رسالة اليونسكو، أبريل - يونيو 2017
البساطة كأسلوب حياة؟، رسالة اليونسكو، يناير 1998
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.