
لنتعلّم كيف نعيش في عصر الذّكاء الاصطناعي
cou_sup_ed_wide-angle_archives_2018_website.jpg

يتعيّن مستقبلا إضافة ثلاثة ركائز جديدة إلى الركائز الأساسيّة الثلاث للنظام التربوي – القراءة والكتابة والحساب – وهي : التعاطف، والإبداع، والفكر النقدي. هذه الكفايات التي تُكتسب عادة خارج الإطار المدرسي، لا بد من إدراجها في البرامج التعليمية تزامنا مع اكتساح الذكاء الاصطناعي للمجتمعات.
ليسلي لوبل
مساعدة وزير التربية في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة (استراليا). أشرفت طيلة قرابة العشرين سنة على استراتيجية النظام التربوي الأكثر انتشارا وتنوّعا في أستراليا وإصلاحه وتجديده. وقد صُنّفت، سنة 2013، ضمن المائة امرأة الأكثر تأثيرا من طرف مجلّة أسترالين فينانشل رفيو/وستباك Australian Financial Review/Westpac اعترافا بدورها في إدارة الشؤون العامّة الأسترالية وإصلاح التعليم.
في سنة 2018، سيؤمّ المدارس الأسترالية 300.000 طفل، وفي صورة تخرّجهم منها حاملين لشَهاداتهم سنة 2030، سيُقضّون أهمّ فترات حياتهم المهنية في النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، وبعضهم قد يظلّ على قيد الحياة في مطلع القرن الثاني والعشرين. ونظرا لنسق التغيّرات التي تحدثها التكنولوجيا المُتقدّمة، فالأرجح أنهم سوف يعيشون ويشتغلون في عالم مغاير تماما لعالمنا. وعليه، لا بدّ أن تستبق الأنظمة التربوية من الآن هذه التغيّرات وتبادر بتأهيل الأجيال القادمة لتضمن لهم رفاهية العيش.
تُمثّل ولاية ويلز الجنوبية الجديدة التي تَعدّ أكثر من مليون طفل وشابّ يدرسون في 3000 مؤسسة تربوية، أكبر مركز للتعليم في أستراليا. وفي كل صف، يُوجد، يوميّا، مُدرس يُعلّم التلاميذ ويقودهم نحو مستقبلهم. إلا أن التغيير على مستوى النظام التربوي قد يكون بطيئا، قياسا باتساع المنظومة ذاتها، رغم الحاجة الملحة والمتزايدة الناتجة عن التكنولوجيا الحديثة.
لذلك، قامت وزارة التربية في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة سنة 2016 ببعث مشروع التعليم في سبيل عالم مُتغيّر. ومراعاةً منها للتبعات الاستراتيجية للتقدم التكنولوجي، سعت هذه المبادرة الهامّة إلى التشجيع على إصلاح برامج التعليم والتقييم، وتوجيه النظام برمته نحو مقاربة أكثر تجديدا.
ومنذ انطلاق هذا المشروع، فتحت الوزارة حوارا مع كبار الفاعلين العالميين في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والأكاديمية، أدّى في نوفمبر 2017 إلى نشر كتاب بعنوان مشاغل الغد: التعليم من أجل الإعداد إلى عالم الذكاء الاصطناعي، وهو مؤلّف يستشرف مستقبل التربية في عالم يطغى عليه الذكاء الاصطناعي. وفي أواخر 2017، انتظم ملتقى دوليّ حضره المساهمون في هذا الكتاب وعدد من الأخصّائيين في علوم التربية، وممثلون عن منظّمات غير حكومية، ومسؤولون سياسيّون، قصد دراسة الوسائل الكفيلة بتحسين الدعم للمُدرّسين وتحسين نتائج التلاميذ بفضل الأدوات الجديدة، وخاصّة منها التكنولوجية. وقد أثارت هذه الأفكار الجديدة تعهّدا موحدا بتحقيق الإصلاحات.
الرّكائز الجديدة
تتمثّل الرّكائز الثّلاث التي يعتمد عليها التعلّم في القراءة والكتابة والحساب، إلا أن التلاميذ أصبحوا اليوم في حاجة إلى كفاءات أساسيّة أخرى وكفاءات هامّة غير معرفية، مثل الإحساس بالمقدرة الذاتية، وفهمٍ أفضل للمفاهيم، وقدرات جيدة على مقاومة الضّغط، والتأقلم، والمرونة.
وسوف تصبح الكفاءات الخصوصية للإنسان أكثر أهمية من أيّ وقت مضى، في هذا العالم الجديد الذي يتشكّل أمام أعيننا حيث سيكون التّفكير النّقدي أحد الكفاءات الأولى التي يجب على النّظم التربوية ترسيخها.
في الوقت الحاضر، يمكن اكتساب هذه الكفاءات الأساسية من خلال الأنشطة التي يقوم بها التلميذ خارج الإطار المدرسي حيث يتعلّم، على سبيل المثال، التعاون، ورسم الأهداف، والتخطيط. ويتمّ تطوير الانضباط وروح الفريق الواحد بتعاطي الرّياضة، في حين تُطوَّر ملكات الإبداع بممارسة المسرح، والفكر النقدي بتنظيم الحوارات، والتّعاطف مع الغير بالعمل التطوّعي في إطار جمعية ما.
ويكمن التحدّي في هيكلة هذه الكفاءات المتعددة التي يتعيّن على الشاب اكتسابها، وإقرار شرعيتها ضمن النظام التربوي، وإدراجها في البرامج المدرسية، وضبط طريقة تقييم نتائج التلاميذ في تلك المجالات التي لم تكن، إلى حدّ الآن، تُعتبر جزءا من التعليم المدرسي والتي يجب أن تكون في المستقبل في المقام الأوّل.
وممّا لا جدال فيه أن المستقبل سوف يفرض على الأطفال، أكثر من أي وقت مضى، نسج علاقات متبادلة، وأن يدعموا روح الانتماء إلى المجموعة، وروح المواطنة والتّعاون على أساس مشاعر التّعاطف مع الغير، وهو ما يُعتبر إحدى الكفاءات الأساسية في القرن الحادي والعشرين.
لقد أصبحت الكفاءات في مجال العلاقات بين الأشخاص عنصرا حاسما في الأنظمة التربوية في العالم. وتقوم كل من اليونسكو ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بتهيئة أطر ومعايير وتقييمات في هذا المجال، خاصّة فيما يتعلّق بمفهوم «الكفاءات العالمية» الرامية إلى تعزيز التعاون بين الثقافات. في أستراليا، تمّ سنة 2009، إدراج مجموعة من المُؤهِّلات العامّة في برنامج التربية الوطنية، مثل التّفكير النّقدي الخلّاق والتّفاهم بين الثقافات. وهو مثال احتذت به عديد الولايات الأخرى في البلاد.
وقد ركّز مشروع "التعليم في سبيل عالم مُتغيّر" على ضرورة تشجيع الممارسات البيداغوجية المجدّدة التي من شأنها أن تعود بالفائدة على مجمل النّظام التّربوي. وقد بدأت تبرز داخل الأوساط التربوية ممارسات خلّاقة، تهدف إلى تحفيز التلاميذ واستغلال إمكانيّات التكنولوجيا المتقدمة لتحسين أدائهم. وبما أن بعضها يعتمد على إثباتات علمية موثوقة أكثر من غيرها، يصعب حاليّا معرفة أيّها الأكثر نجاعة.
الذكاء الاصطناعي في قاعة الدراسة
بعد أن تبنّت وزارة التربية في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة الابتكارات الوطنية والدولية الأكثر فعاليّة في القطاعين الخاص والعمومي، شرعت في دراسة أفضل السبل لتقديم الدّعم للمختصين في التربية قصد صياغة هذه الأفكار الخلّاقة والتعجيل بها. والهدف من ذلك إيجاد مناهج جديدة ومستدامة وقابلة للتّطوير تسمح بتحسين التعلّم والنهوض بقدرات التلاميذ وضمان نجاحهم.
يختزن الذكاء الاصطناعي إمكانيات بالغة الأهمية في مجال التعليم، شريطة أن يُستعمل بدراية ووفق حاجِيات المُدرّسين. وتوجد حاليا أنظمة ترتكز على الذكاء الاصطناعي قادرة على توفير تعلّم مطابق لخصوصيات الشّخص، ممّا يُخفّف بعض الأعباء على المُدرّسين ويسمح لهم بالتركيز على الحاجيات الفردية للتلاميذ وعلى الأهداف البيداغوجية. هذه الأنظمة قادرة على متابعة مدى انخراط التلاميذ وتقدّمهم، كما قد تكون مُستقبلا قادرة أيضا على اقتراح تعديلات في المضامين والمحتويات.
إنه من الأهميّة بمكان أن تبقى عملية تصميم هذه الأنظمة وتطويرها بين أيدي المُربّين. ويعود بالدّرجة الأولى إلى المُدرّسين ومديري المؤسسات، الذين سيتلقّون التكوين المناسب، أن يُحدّدوا بوضوح مكانة الذكاء الاصطناعي في قاعة الدراسة. ولا بدّ أيضا من تشريك التلاميذ في اتّخاذ القرارات في هذا المجال، وبالتالي لا بد من تعليمهم الجوانب الأخلاقية. فمستقبلهم مُرتبط بالسياسات والمناهج التي سوف نعتمدها اليوم.
من أرشيف رسالة اليونسكو: يوليو - سبتمبر 2018
مطالعات ذات صلة
مشروع التعليم في سبيل عالم مُتغيّر
الصورة: فنسان فورنياي
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.