
إيفا-ماريا غيغل: "تاريخ الإنسانية حكاية هجرات مُتعاقبة"
cou-04-2021-wide-angle-geigl-web.jpg

سواء لأسباب مناخية أو مرتبطة بالنّزاعات أو بحثا عن موارد العيش، دائما ما تنقّل الإنسان واختلط بغيره عن طريق التزاوج كما يتبيّن ذلك من تحليل جينوم العظام التي تمّ العثور عليها في المواقع الأثرية. وفي هذا المجال تقدّم لنا إيفا-ماريا غيغل، مديرة الأبحاث في المركز الوطني للبحث العلمي (فرنسا) ومسؤولة مشاركة في فريق علم الأحياء القديمة في معهد جاك مونو بباريس، التوضيحات التالية.
أجرت المقابلة أنياس باردون
اليونسكو
ما هو دور علم الجينوميات (دراسة الحمض النّووي القديم) ؟
علم الجينوميات (أو الباليوجينوميك) هو اختصاص مُكمّل لعلم الآثار والأنثروبولوجيا. فعلماء الآثار يقومون بالتنقيب واستخراج شظايا العظام التي يحاولون تحديد انتسابها إلى فترة تاريخية ما وثقافة معينة. إن تحليل الرّفات البشرية المستخرجة من الحفريات يُمَكِّن من تحديد جنس الفرد، وربّما وضعه الاجتماعي، والأمراض التي أُصيب بها، كما يُمكّن في كثير من الأحيان من إعطاء مؤشّرات على طريقة اشتغال مجتمع ما. وتتمثّل مهمّة علماء الحفريّات والجينيات في استخراج الحمض النووي من العظام لتحليل الجينوم الخاص بها. من ثمّة، تتم مقارنة هذا الجينوم بجينوم أفراد عاشوا في فترات تاريخية أخرى، أو في أماكن أخرى، أو مقارنته بجينوم السكان الحاليين. وبهذه الطريقة، يمكن إعادة بناء سلسلة النّسب، أي الروابط العائلية، والقرابة الجينية، وكذلك الهجرات والتّزاوج المختلط الذي حدث عبر الزمن.
كيف يمكن للمعلومات الجينومية أن تحكي القصة البيولوجية للسكان ؟
يسمح التحليل الجيني بتوصيف تاريخ استيطان منطقة معيّنة، وبالتالي تنقّلات السكّان واختلاطهم عن طريق التّزاوج بالجماعات الأصلية. فعلم الجينوميات القديمة هو الذي سمح بإثبات أن الفلّاحين من الأناضول أو أصيلي بحر إيجة قد انتقلوا إلى شمال غرب أوروبا منذ 8.500 سنة. كما أن الفلاحة وتدجين الحيوانات تطوّرت منذ حوالي 12.000 سنة في منطقة الهلال الخصيب في الشرق الأوسط، وإيران، والأناضول. ومنذ حوالي 8.500 سنة، بدأ هؤلاء الفلاحون في الهجرة نحو أوروبا عبر طريق قارّية تنطلق من اليونان مرورا بالبلقان، ثمّ هنغاريا، فالنّمسا، وألمانيا لتصل إلى شمال فرنسا (الحوض الباريسي).
كما سلكوا طريقا أخرى تمرّ حذو سواحل البحر الأبيض المتوسط عبر ما يعرف الآن بكرواتيا، وإيطاليا، وصقلية، وسردينيا، وكورسيكا وصولا إلى جنوب فرنسا وشمال شرقي شبه الجزيرة الأيبيرية. هذه الظواهر تمّ التعرّف عليها بفضل تحليل البقايا التي عُثر عليها أثناء التنقيب، سواء من خلال الشّظايا الخزفية أو أدوات مصنوعة من حجارة الصّوان أو عظام حيوانات أليفة مثل الغنم الذي أدخل بفضل هذه الجماعات من المزارعين. غير أن علماء الآثار لا يمكنهم، اعتمادا على المواد الموجودة تحت تصرّفهم، تحديد ما إذا كانت مهارات فلّاحي الهلال الخصيب وتقنياتهم هي التي سافرت فقط، أم أن مبتكري هذه التقنيات قد انتقلوا جسديًا إلى هذه الأماكن. وبفضل التّحليل الجينومي، أمكن إثبات أن الفلاحين قد التقوا بالصيادين-القطّافين الأصليين المستقرّين منذ حوالي 14.500 سنة في أوروبا قبل أن يختلطوا جزئيًا بهؤلاء الأقوام.
هل يمكن للتحليل القائم على الجينوم أن يُلقي أضواء جديدة على بعض الحقائق التاريخية ؟
لقد حدث ذلك سنة 2012، عندما تم العثور على رفات فتاة، عاشت منذ ما لا يقلّ عن 50.000 سنة، في كهف دينيسوفا الواقع في جبال ألتاي في روسيا. وقد سمح تحليل جينوم عظام أصابع رجليها بإثبات وجود سكان معاصرين للإنسان النيودرتالي. هؤلاء السكان، الذين كانوا يعيشون في آسيا، انتشروا واختلطوا بالسابيانس الأوائل القادمين من إفريقيا، والحال أن علماء الأنثروبولوجيا القديمة لم يكونوا، إلى حدّ الآن، يعلمون بوجود هذه المجموعة السكّانية.
مثال آخر في هذا المجال يتمثّل في هجرة الْيَمْناياس إلى أوروبا، وهم من البدو الرحّل القادمين من السّهوب البونتيّة شمال البحر الأسود. هؤلاء السكان، الذين كان اقتصادهم يعتمد على تربية البقر، اجتاحوا وسط أوروبا وشمالها منذ حوالي 5.000 سنة، واختلط الرّجال منهم خاصّة بالفلاّحين من السكان الأصليين في أواخر العصر الحجري الحديث. ونظرا لارتفاع نسبة نجاحهم الإنجابي، حدث استبدال جينومي هام، وهو ما يسمى بالاقتحام introgression. وإلى اليوم، ما زال 80 إلى %90 من الرجال، في كلّ من بريطانيا الفرنسية، وأيرلندا، والمملكة المتحدة، يحملون كروموسوم Y من اليمناياس. هذه الظّاهرة لم تكن معروفة لدى علماء الآثار لأنهم لم يعثروا على آثار ماديّة لمرور اليمناياس.
ماذا نعرف عن أسباب مختلف هذه الهجرات ؟
يمكن التّفكير في عدّة أسباب، لكنها تبقى مجرّد فرضيّات إذ لا نستطيع تقديم أدلّة علمية في الغرض. فأسباب هذه التنقّلات قد تكون مناخيّة كما يمكن أن تكون ديموغرافية. فللهجرات دوافع عدّة منها ما هو مرتبط ببحث مجموعة ما عن مورد عيش كما هو الشأن بالنسبة للصيّادين-القطّافين الذين كانوا يتقفّون هجرات الحيوانات الكبيرة. وعندما تطوّر المناخ، كان على البشر أن يبحث عن أماكن أخرى للعيش. كما أن النّزاعات بين السكّان سبب آخر للهجرة. وكما هو الحال اليوم، كانت أسباب التنقل، منذ آلاف السنين، مناخيّة أو معيشيّة أو بسبب النّزاعات.
على ضوء تحليل جينوم أسلافنا، هل يمكن القول إنّنا جميعًا مهاجرون ؟
إطلاقا. في البداية، نحن كلنا أفارقة، لأنّ أسلافنا جميعًا أتوا من إفريقيا. فالإنسان العاقل (هومو سابيانس) تطوّر في إفريقيا قبل أن يغادرها على مراحل. المرحلة الأخيرة هي مرحلة أسلافنا المباشرين. ومن ثمَ،ّ فنحن جميعًا مهاجرون لأن تاريخ البشرية يتكوّن من سلسلة هجرات متعاقبة. فمنذ غابر الأزمان كان البشر يتنقّل ويختلط عن طريق التّزاوج، وهو ما يؤدي أحيانًا إلى استبدال السكّان الأصليين، ولكن ليس في كلّ الحالات.
لم نكن أبدا مقيمين أو مستقرّين. فقد كنّا دائما مضطرين للتنقّل والتأقلم. فلا وجود لمجموعات سكانية "نقـيّة" وراثيًا. وهو ما يدعو إلى الارتياح، لأننا، نحتاج، بيولوجيّا، إلى اختلاط الجينومات.
مطالعات ذات صلة
إيان تتّرسال: في متاهة التطوّر البشري، رسالة اليونسكو، ديسمبر 2000
إيف كوبينز يجيب عن أسئلة فرانسيس ليري، رسالة اليونسكو، فبراير 1994
ظاهرة تايلهارد بقلم إيف كوبانز، رسالة اليونسكو، نوفمبر 1981
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.