بناء السلام في عقول الرجال والنساء

أفكار

من أجل تقييم علمي أكثر شفافية

thumbnail_cou-04-2021-idea_peerreview-web_2.jpg

رسم © فرانسيسك رواغ لفائدة رسالة اليونسكو.

تخضع البحوث التي يقوم بها العلماء، قبل نشرها، إلى تقييم من قِبل المستشارين المقيّمين، وهم خبراء يقومون بفحص مدى دقة المنهج المتّبع في البحوث ومدى وثوقية النتائج المترتّبة عنه. غير أن هذه العملية النّقدية لا تحول دون حدوث بعض الانحرافات. كما أنها تستعصي تماماً على عامّة الناس الذين يفتقرون إلى العناصر الأساسية لفهم الكيفيّة التي يصاغ بها العلم.

أليكس هولكومب

أستاذ في كلية علم النفس بجامعة سيدني، أستراليا

بعد مرور عام ونصف على تفشّي جائحة كوفيد ـ 19، أنقذ العلم العديد من الأرواح. فلولا البحوث الطبية الحيويّة، لكان من غير الممكن تطوير اللّقاحات، ولا كان ممكنا تقييم فعاليتها. لكن المجتمع العلمي لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية في مواضيع أخرى حاسمة مرتبطة بالجائحة بدليل أنّ الجدوى من الأقنعة، وموثوقية نماذج انتقال الفيروسات، مثلا، لم يقع إثباتهما قطعيّا نظرا للعيوب التي شابت عديد الدّراسات ذات الصّلة.

إن العلم مجال معقّد، ومن السّهل إجراء بحوث بطريقة غير سليمة. لذا وجب تقييم التّداعيات المترتّبة عن كلّ دراسة علمية من طرف الخبراء. وبصفتي باحثا، أعرف بالتّجربة أن خبراء مكلّفون بالتقييم تفطّنوا، في كثير من الأحيان، إلى نقائص غابت عنّي في أعمالي البحثية. فالمجتمع العلمي لديه طريقة تخوّل إنجاز هذا النّوع من المراقبة على نحو سليم، وإجراء تقييمات من طرف مستشارين مقيّمين. ومع ذلك يظلّ هذا التقييم قابلا للخطأ.

 فأحدث الدراسات العلمية لا تحظى بالثّقة إلاّ إذا توفّر لأصحابها الوقت الكافي لإخضاعها إلى اختبارات إضافية وعُرضت على الفحص الدّقيق لعديد الخبراء. وعندما تُنشر نتائج البحوث، فإن القرّاء لا يرون منها سوى مقالات الباحثين الذين أنجزوا الدراسة، ولا شيء آخر.

سيرورة مغلقة

والحال أنّ عمليّة فحص البحوث تُستهلّ، عموما، عندما يُرسِل فريق من المختصّين العلميين إلى مجلة علمية وثيقة تصف نتائج جديدة. فيتولّى رئيس تحرير المجلة، وهو عادة ما يكون باحثاً في جامعة أخرى، دراستها ويقرّر ما إذا كانت تفي بمعايير الجودة المتّبعة في المجلّة. وإذا كانت الحالة تلك، فإنه يستعين بخبراء متخصصّين في الموضوع ذاته، والذين غالبا ما يقدّمون تعليقات ويُبدون انتقادات تتمّ إحالتها إلى مؤلفي الوثيقة. وأنا لا أحبّذ، والحقّ يقال، الاطّلاع على الانتقادات المتعلّقة بأعمالي، لكنّني أدرك أهميّتها. وبعد تصويب بعض أوجه القصور في الحجج والأدلّة المقدّمة وتطوير الفرضيّات المتّصلة بالموضوع، يكون بمقدورنا أن نثق أكثر فيما توصّلنا إليه من استنتاجات على أمل أن يكون لها تأثير أكبر.

هذا الأخذ والردّ بين المؤلّفين ورؤساء التّحرير والمستشارين المقيّمين يفضي إلى وثيقة نهائية تتضمّن تحليلا أكثر صرامة للبيانات، ويقدّم وجهة نظر أكثر دقّة حول التّداعيات المترتّبة عنها.

لكن المؤسف أن الجمهور لا يعلم شيئا عن العناصر التي شكّلت موضوع إعادة النّظر لأنّ عملية التّقييم من قِبل المستشارين المقيّمين تتمّ خلف الأبواب المغلقة، داخل جدران محميّة بكلمة سرّ تحول دون الوصول إلى قاعدة البيانات الخاصة بالمجلّة. بذلك يظلّ القراء غير عارفين بالجوانب التي كانت مثار جدل بحكم حرمانهم من حق الاطّلاع على سير المناقشات. فلِفَهْمِ العناصر التي أثارت الجدل بين الخبراء، من الضّروري أن يكون الجمهور على دراية بتضارب الآراء الذي ظهرت أثناء عملية التّقييم من طرف المستشارين المقيّمين.

دراسات موضع تشكيك

في عام 2020، تم سحب دراستين تناولتا الآثار النّاجمة عن الهيدروكسي كلوروكين وعن العقاقير المضادّة لارتفاع ضغط الدم على تطوّر جائحة كوفيد ـ 19، بعد نشرهما، وذلك إثر عملية تقييم تقليدية من قِبل المستشارين المقيّمين بطلب من مجلة ذي لانسيت The Lancet ومجلة ذي نيو انجلاند جورنال أوف ميديسين The New England Journal of Medicine، وهما من أفضل المجلاّت حظوة في أوساط المجتمع الطبي. وقد قبلت المجلة الأخيرة نشر المقالة بعد أن تلقّت تعليقات من قِبل أربعة خبراء، دون أن تعلن، طبعا وكما هي العادة، عن الشّكوك والتّساؤلات المُعبّر عنها أثناء عملية التقييم. 

ونعلم اليوم أنّ عديد الأخصائيين العلميين الذي لم يشاركوا في عملية التّقييم سرعان ما التقطوا علاماتٍ تشير إلى مواطن شكّ في بيانات الدّراسة، وأرسلوا خطابات تحوي انتقادات إلى المجلّة في غضون أيّام من نشر المقال. وقد كان للاهتمام البالغ الذي أثاره الموضوع تبعاته على دفع الخبراء إلى فحص المقال بعد نشره والتّعبير عن شواغلهم. لكن المؤسف أن هذه الحالة تظلّ استثنائية.

وثمة مثال آخر حدث في عام 2013، حيث اعتقد باحثون أنهم أعادوا إنتاج بروتينات موجودة على سطح فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) بأدنى مقياس لم يسبق له أن أُنجز من قبل. ونُشر مقالهم في واحدة من أرقى المجلات في العالم، قبل أن يُكتشف، لاحقا، أنّ أربع مجلات على الأقل رفضت نشره. واستند البعض من هذه المجلاّت إلى الانتقادات الحادّة التي وجّهها المستشارون المقيّمون، والتي لم يُنشر شيء منها. وقد بلغت إلى علم المجتمع العلمي ملابسات هذه القضية بفضل بعض الصّحفيين. 

وأمام هذه الانتقادات، شرعت بعض من هذه المجلاّت، اليوم، في نشر تقييماتها المنجزة من طرف مستشارين مقيّمين. وأصبح العديد من الباحثين ينشرون مقالاتهم على شبكة الإنترنت قبل أن يعرضوها على المجلات. كما اكتسبت منصّات النّقاش المخصّصة لنقد المنشورات العلمية نشاطا أكبر.

هذا، وقد أصبح رؤساء تحرير هذه المجلات يجدون صعوبات متزايدة في العثور على خبراء قادرين على القيام بعمليات التقييم التقليدية، لذا ينحو الكثير منهم إلى الاعتماد، على نحو غير متناسب، على خبراء من بين معارفهم أو باحثين ممن تنهال عليهم الطّلبات ولا يستطيعون الاستجابة لجميعها. على أنّ هذه الممارسة، التي تحدّ من سرعة عملية التقييم من قِبل المستشارين المقيّمين، لا تعكس التطوّر الديموغرافي للمجتمع العلمي.

وذلك أنّ النساء وأفراد الأقليات أصبحوا يكرّسون أنفسهم للعلم على نحو متزايد، كما أن مساهمات البلدان النّامية مثل الصّين تشهد تطوّرا سريعاً. غير أنّ هؤلاء الباحثين يبقون خارج مجال الرّؤية ولا تلتقطهم رادارات الأخصائيّين العلميين المحنّكين والمتحكّمين في المجلات التي يقيم معظمها في أمريكا الشّمالية وأوروبا.

ولعلّ ازدهار هذه الإمكانيات الجديدة في النّقد والتّعليق قد يسمح بفضّ مثل هذه الإشكاليات في المستقبل. وقد شرعت بعض المجلاّت في دعوة الخبراء إلى نشر تعليقاتهم على مواقع الويب المرتبطة بها. ولربّما يساعد تطوير هذه الممارسة على تنوع عمليات التقييم من قِبل المستشارين المقيّمين.

من أجل فهم أفضل للعلم

من المؤكّد أنّ الجدلية القائمة داخل مجتمع الباحثين هي التي ترسم حدود المعارف وتضبطها، وهي التي تعبّر عن الشّكوك التي قد تحوم حول فعاليّة لقاح جديد، أو جديّة التنبؤات بشأن زيادة الجفاف في بلد ما، أو مصداقيّة النّصائح المسداة في مجال التغذية، أو تقييم التّبعات الاقتصادية للرّسوم الجمركية. ويوم يتمكّن الصحافيون والجمهور من الاطّلاع على جزء من المناقشات التي تدور بين الخبراء، فسوف تكتسب التقارير التي تقدّمها وسائط الإعلام مزيدا من الدقّة، ويُفتح المجال، عموما، لفهم أفضل للعلم.

وسوف يستفيد الخبراء من ذلك أيضا. ففي صورة اطّلاع الباحثين على بعض من التّعليقات التي يقدّمها المستشارون المقيّمون، سوف يسعون أكثر إلى إعادة النّظر في بعض فرضيّاتهم ويتجنّبون إضاعة الوقت في صياغة استنتاجات لا تقدر على الصّمود. وبذلك يستفيد الباحثون من هذا الوضع، وكذلك العلم.

مطالعات ذات صلة

البحث العلمي: هذا الوباء سيكون صاعقاً، رسالة اليونسكو، يوليوـ سبتمبر 2020 

مركز سيسامي: تجسيد للامتياز العلمي في الشرق الأوسط، رسالة اليونسكو، أكتوبرـ ديسمبر 2018

عادا يوناث: "البحث العلمي بمثابة تسلّق جبل إفرست" رسالة اليونسكو، يناير – مارس 2018

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.

تابع  رسالة اليونسكو على تويتر، فيسبوك، أنستغرام