
التاريخ الطويل للصينيين المقيمين وراء البحار
cou-04-2021-wide-angle-overseas-web.jpg

تُعدّ الصين، بعد الهند والمكسيك، البلد الأصلي لأكبر عدد من المهاجرين الدوليين. ويعود تاريخ الهجرة الصينية، التي تميّزت بموجات متتالية، إلى فتح طريق الحرير البحري.
زهوانغ غوتو
مدير الدراسات بجامعة هواشياو وأستاذ بجامعة شيامن، بجنوب شرقي الصين. تتناول بحوثه التاريخ العرقي للصين والعلاقات الدولية الصينية. وهو أيضًا عضو في اللجنة الاستشارية لمكتب شؤون صينيّي ما وراء البحار.
يَعدّ الصينيون المهاجرون اليوم والذين يعيشون في الخارج 10 ملايين مهاجر، حسب المنظمة الدولية للمهاجرين، وقد يصل العدد إلى 60 مليون إذا ما احتسبنا نسلهم.
هذا الرقم يُعتبر من الأرقام الأرفع في العالم. صحيح أن تاريخ الهجرة الصينية يعود إلى زمن قديم، إذ بدأ مع افتتاح طريق الحرير البحري، وقد تركّزت، آنذاك، في جنوب شرقي آسيا. ففي بداية القرن الخامس عشر، أُنشئت عديد الأحياء الصّينية يضمّ كل واحد منها عدة آلاف من المهاجرين في كلّ من سومطرة، وجاوا، في إندونيسيا الحالية. وسوف يتكثّف عدد المُغتربين في القرن السادس عشر. في الأثناء، استقرّ الأوروبيون في الشرق الأقصى بهدف إدماجه في شبكة التجارة العالمية، وقد تطلّبت المنافسة فيما بينهم من أجل تطوير مستعمرات جنوب شرقي آسيا استقدام تجار وعمّال صينيين.
في بداية القرن السّابع عشر، بلغ عدد الصّينيين حوالي 100.000 نسمة في جنوب شرقي آسيا، وما بين 20.000 و30.000 في اليابان، حيث كانوا يشتغلون بالخصوص في التّجارة والصّناعات التقليدية. وفي منتصف القرن التاسع عشر، أصبح عددهم يُقارب المليون ونصف المليون نسمة، واستقرّوا بالأساس في جنوب شرقي آسيا، أمّا في اليابان فقد اندمجوا في المجتمع المحلّي.
تداعيات حروب الأفيون
منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى بداية سنوات 1940، شهدت الصين موجة ثانية من الهجرة قِوامها الأساسي العمال الصّينيون أو "العملة الصّينيون المُتعاقدون". فخلال حرب الأفيون الأولى والثانية، في القرن التاسع عشر، أجبرت كلّ من المملكة المتحدة وفرنسا حكومة تشينغ على السّماح بالتّرحيل المُكثّف لليد العاملة الصينية إلى الدّول الغربية ومستعمراتها لتحلّ محلّ العبيد السّود. فكانت بداية انتشار الصّينيين فيما وراء البحار عبر العالم، انطلاقا من جنوب شرقي آسيا نحو أمريكا، وأفريقيا، وأوروبا، وأستراليا.
بعد الحرب العالمية الأولى، وقبل اندلاع الثانية في المحيط الهادئ، ارتفعت أعداد المهاجرين الصينيين بحكم الازدهار الاقتصادي لجنوب شرقي آسيا ومزيد الطّلب على اليد العاملة، حيث بلغ عدد الصّينيين المغتربين، في بداية أربعينيات القرن العشرين، ما يقارب 8.5 مليون مغترب في العالم، استقرّ أكثر من %90 منهم في جنوب شرقي آسيا. وفيما بين 1949 وأواخر السبعينيات، وضعت جمهورية الصين الشعبية حدًّا لحركات الهجرة على نطاق واسع، وتوقّفت بذلك موجة الهجرة المتدفّقة منذ أكثر من ثلاثة قرون.
أمّا الموجة الثالثة من المهاجرين الصّينيين الجدد فقد بدأت في الثمانينيات بصفتها جزءا لا يتجزأ من موجة الهجرة العالمية. وهؤلاء المهاجرون هم أصيلو مناطق ثلاث – الصين القارية، وهي المورد الرئيسي للهجرة، وتايوان، وهونغ كونغ – ويلتحق معظمهم بالبلدان الصناعية. وتُسجّل الولايات المتحدة أعلى نموّ لأعدادهم.
بيد أن النموّ الاقتصادي السّريع للصّين، وتطوّر علاقاتها التّجارية الخارجية، جعل المهاجرين يتوجّهون اليوم بكثافة إلى البلدان النّامية إذ سجّل عدد المهاجرين الصينيين إلى آسيا الوسطى وآسيا الغربية، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، ارتفاعا كبيرا.
مدّ السكك الحديدية واستغلال المناجم
ليس هناك من نشاط لم يُقدّم فيه المهاجرون الصّينيون مساهمتهم الكبيرة لفائدة مجتمعاتهم الجديدة سواء كان ذلك في البلدان الاستوائية جنوب شرقي آسيا أو في البلدان المعتدلة في أوروبا وأمريكا، أو تعلّق الأمر بأنشطة مثل فتح الطّرقات واستصلاح الأراضي القاحلة في جنوب شرقي آسيا في القرن الثامن عشر، وبناء مدن وموانئ واستغلال مناجم الذّهب في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، ومدّ السكك الحديدية أو فتح المطاعم ومحلاّت المواد الغذائية في أوروبا في القرن العشرين.
وبفضل عملهم، فهم يسعون إلى كسب مكانتهم في المجتمع اعتمادا على حسن التصرّف في مداخيلهم وممتلكاتهم في فترة الصّعوبات الاقتصادية، لذا تراهم يعوّلون على أنفسهم عند حدوث أزمة، حتى لا يضطرّون إلى طلب المساعدة من عائلاتهم وأصدقائهم، ومن باب أولى وأحرى من المجتمع الجديد الذي يعيشون فيه.
كما ظلّ الصينيّون المقيمون ما وراء البحار شديدي الارتباط ببلادهم الأصلية، ومن بين أهدافهم الرئيسية دعم أسرهم وأقربائهم وأصدقائهم. كما أن لديهم ثقافة راسخة في تحويل أموالهم إلى بلدانهم الأصلية. وهذه الرّابطة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل. وهم يُساهمون منذ ما يقرب عن القرن في جهود تحديث الصّين. فمنذ ثمانينات القرن العشرين، بلغت الاستثمارات المُتأتّية من المغتربين ثلثي الاستثمارات الأجنبية التي رخّصت فيها الحكومة الصينية.
صور نمطيّة
عادة ما يُعتبر المهاجرون الصّينيون أشخاصا يقبلون على العمل ومُقتصِدون. وقد استطاع الكثير منهم أن يكوّن ثروات، وينشئ مؤسّسات، ويستثمر في الأسواق المالية.
ومن ميزاتهم إيلاء الأهميّة لتعليم الجيل القادم وتربيته، ربّما عملا بمقولة "كل عمل هو دون المستوى، وحدها القراءة أرفع". فالعائلات الصينية تقدّس التعليم، سواء كانت غنية أو فقيرة، بغض النّظر عن الدّولة التي تعيش فيها. وحتى تلك التي لديها مستوى تعليمي منخفض، فهي مستعدة لتقديم التّضحيات في سبيل أن يتلقّى أطفالها تعليمهم في مدارس جيدة.
هاتان الميزتان غذّيتا، أحيانا، تصوّرات نمطيّة عن جاليات المهاجرين الصّينيين، مما زاد في تعميق الهوّة التي تفصلهم عن المجموعات الاجتماعية الأخرى في البلدان المضيفة. على أنه يصعب إصدار عموميّات في شأن مجموعة مهاجرين بهذا الحجم. ففي ظلّ العولمة الشّاملة والتّواصل المستمرّ بين الثقافات، يكون من غير العقلاني ومن باب قِصر النّظر محاولة وصم مجموعات معيّنة من الأشخاص. وعلى كلّ، فقد واصل صينيّو ما وراء البحار استكشاف هويّتهم وبنائها في هذا العالم الذي ما فتئ يسير نحو الاندماج. وفي إطار الجائحة المرتبطة بكوفيد -19 والتّمييز الذي أثارته ضد الأشخاص المنحدرين من شرق آسيا، يصعب مواجهة هذه التحدّيات في يوم واحد. غير أنّ الصينيين في الخارج عرفوا كيف يطوّرون على مرّ القرون قدرة على الصّمود والمرونة لمجابهة هذا النّوع من المحن.
مطالعات ذات صلة
الهجرة والنّزوح والتعليم، بناء الجسور لا الجدران، التقرير العالمي لرصد التعليم (GEM) 2019، اليونسكو.
معلّم متعدّد الاختصاصات في قرية صينية معزولة، رسالة اليونسكو، أكتوبر- ديسمبر 2019
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.