بناء السلام في عقول الرجال والنساء

زاوية كبرى

في كندا، مركز لمعالجة أمراض المنفى

cou-04-2021-wide-angle-canada-web.jpg

مارسيلو برودسكي، عن كتاب "نيكسوس Nexus" منشورات ٍEditorial Lamarca، بوينس آيرس، 2001

بعد أن ظلّت المعاناة النفسية للمهاجرين واللاجئين موضع تجاهل لفترة طويلة، أصبحت اليوم محلّ اعتراف أفضل كما هو الشأن بالنسبة لخدمات المساعدة النفسية المتخصصة صلب مستشفى جيفري هيل في كيبيك، التي تتعامل مع الأعراض التي يعاني منها المرضى استنادا إلى ثقافتهم الأصلية.

غاي سابوران،

صحفي مستقل. مونتريال

غادر حسان تراوري* مؤخراً غرب أفريقيا. وهو الآن لاجئ في كيبيك، بعد أن واجه مذابح وأعمال عنف ارتكبتها جماعات جهادية. في المساء، ينزوي مع أسرته ويحصّن نوافذ منزله، فهو ما زال يشعر بأنه ملاحق. 

يقول الأخصائي النفسي الذي تولى معالجته، جان ـ برنارد بوكرو، الأستاذ المساعد في جامعة لافال والمؤسس المشارك لخدمات المساعدة النفسية المتخصصة في مساعدة المهاجرين واللاجئين SAPSIR: "إنه هنا، ولكن ذهنه دائما هناك، شأنه شأن الكثيرين مثله"، ويضيف: "إنّ الأشياء التي لها معنى معيّن في بلده لم تعد كذلك هنا. وهو يمرّر مشاعر القلق التي تنتابه إلى أسرته".

وعموما، لا يعاني المهاجرون أكثر مما يعانيه عامة السكّان من مشكلات الصحّة العقلية (وفقاً لمنظمة الصحّة العالمية، يصاب شخص واحد مرّة في حياته على الأٌقلّ على كل أربعة أشخاص). غير أن تجربتهم الحياتية الخاصّة قبل الهجرة وفي البلد المضيف قد تزيد من ضائقتهم النفسية.

وبالنسبة للمهاجرين، الذين بمقدورهم العودة إلى بلادهم الأصلية، فقد تنتابهم مشاعر الكآبة عندما يضفون نظرة مثالية على الحياة التي تركوها وراءهم. يوضح جان ـ برنارد بوكرو أن "مشاعر الحزن هذه قد تؤدي إلى تحيين أمراض كامنة سابقة أو تفاقمها في حالة توفّر أرضية هشة أو ضعيفة منذ البداية".

فك شفرة المعاناة

أما فيما يتعلق بطالبي اللجوء واللاجئين الذين عاشوا قطائع وتمزّقات، فإنّ التجاوز يكون أصعب إذ هم معرضون إلى اضطرابات الاكتئاب والقلق، وإلى النّزاعات الأسرية، والتّوترات النّفسية التي تلي الصدمات والتي يزيد المنفي من حدّتها، وغالبا ما تأخذ مظهر اضطرابات جسدية تؤثر على الرأس أو الجهاز الهضمي أو العمود الفقري. ويوضح جان ـ برنارد بوكرو أنه "حتى إن لم تتجلّ هذه المعاناة عضويا فهي تظلّ حقيقية لأنّ قراءة العديد من المهاجرين، المنتمين إلى ثقافات تقليدية، للمصاعب التي يمرّون بها تختلف كثيراً عن قراءتنا نحن. لذلك وجب قبل كلّ شيء فك شفرتها". وهذه الأمراض المختلفة تؤثر في المقام الأول على الثقة بالنفس، وعلى الرابطة الاجتماعية، والنظرة إلى المستقبل.

كما يعاني المهاجرون واللاّجئون، بدرجات متفاوتة، من أعمال عنف مؤسّسية واعتداءات متكرّرة قد تحدث في البلدان المضيفة مثلما تشهد على ذلك حالة تلك المرأة التي نجت من النّزاع العرقي الرّاوندي بعد أن فقدت أسرتها وعددا من أطفالها، ونجحت رغم كل شيء في بناء حياة جديدة في كيبيك. وذات مساء، تعرّضت إلى اعتداء وهي خارجة من مقر عملها. يقول جان ـ برنارد بوكرو أن "هذا الاعتداء أيقظ جميع ما تعرّضت له من صدمات سابقة. فانهار كلّ ما استعادته من حيوية، وتغلّبت اللاّعقلانية على مشاعرها، وأصبحت تشعر أنّها ما زالت في خطر، أينما حلّت".

إسهام الطبّ النفسي الإثني أو العرقي

تقول الأخصائية النّفسية لوسيل مارتينيز بورخيس، الأستاذة بمدرسة العمل الاجتماعي والدراسات الجنائية في جامعة لافال والعضو المؤسّس المشارك لخدمات المساعدة النفسية المتخصّصة للمهاجرين واللاّجئين، أنّه "في بداية القرن العشرين، تولّد لدى المهاجرين واللاجئين شعور بأنهم لا يحظون بالفهم عندما يتوجّهون إلى الشّبكة الصّحية أثناء فترات التأزّم النفسي. لذا تفاعلنا مع هذا الواقع وأنشأنا قسما لتقديم الخدمات لهؤلاء الأشخاص".

وتُقدّم خدمات المساعدة النفسية المتخصّصة للمهاجرين واللاجئين في المحلاّت المجاورة للخدمات الصحية الخاصة باللاجئين التابعة، بدورها، إلى مستشفى جيفيري هيل في كيبيك.  وتقول لوسيل مارتينيز بورخيس إنه "بالنّسبة إلى الحالات المعقّدة، فإن المجموعة الكبيرة هي التي تستجيب على نحو أفضل". وتعني بالمجموعة الكبيرة الطّرف المتدخّل الذي يتابع المريض والمكوّن من أخصائي نفسي رئيسي، ومعالج مشارك، وعامل اجتماعي، وممرّض، ومترجم وسيط ثقافي. وتضيف بورخيس: "إن الأشخاص الذين نلتقي بهم غالباً ما يأتون من أوساط جماعية أو من مجتمعات محلّية، ولهذا السبب فهم يستجيبون على نحو أفضل لتدخّلات تقوم بها مجموعة ما". وتبعاً للحالات، هناك أيضاً متابعات من خلال مجموعات صغيرة (متدخّلان أو ثلاثة)، ونادراً ما تكون هناك متابعات فردية.

يقول جان ـ برنارد بوكرو "خلال هذه اللّقاءات، يتعيّن علينا أن نستند، فعليّا، إلى ثقافة الشّخص، وإلى العناصر التي أسهمت في تكوينه ولها معنى بالنسبة إليه. يجب النّفاذ إلى عالم الشخص المعني، تدريجياً، ثم نسجِ فهمٍ وبناؤه بالاشتراك معه لتمكينه من الانخراط فيه. ولهذه الموافقة أهمّية قصوى في تقبّل الشّخص العلاج واعتباره مفيدا له". وتنتمي هذه المقاربة إلى الطبّ النّفسي العرقي الذي يعطي مكانة محوريّة للبعد الثقافي الكامن والذي يتجلّى من خلال الأعراض النفسية.

تجتمع وحدة خدمات المساعدة النفسية المتخصّصة للمهاجرين واللاجئين بالشخص بين 15 و17 مرة، وتشرف على المتدخّل الذي سيتولّى زمام الأمور. هكذا أصبحت هذه المقاربة تُنتهج في جميع أنحاء البلاد.

يقول جان ـ برنارد بوكرو، معلناً عن ارتياحه: "إنني أعمل في هذا المجال منذ ربع قرن ويمكن أن أقول إننا نشهد تطوّراً لدى المتدخّلين" ثمّ يضيف بأن بعض المتدخلين في كيبيك يستلهمون، حاليا، من الطب النفسي العرقي والمقاربة السريرية المشتركة بين الثقافات لعلاج المعاناة النّفسية للمهاجرين.

استعادة الثّقة في المستقبل

يحتاج المهاجرون واللاجئون إلى الأمن الجسدي والنفسي وأن يشعروا أن بمقدورهم إنجاز مشاريع. كما يتعيّن عليهم إيجاد أجوبة عن السّؤال التالي: كيف يظل المرء على ما هو عليه بعد كلّ ما عاناه وحيثما ذهب ؟ إن الأمر يتطلب بعض الوقت مع توفير شبكة واقية لهم، ومحيط مطمئن، وأن يشعروا أنّهم في مكان آمن. ومن أمثلة ذلك المهندس الزراعي الأمريكي الجنوبي، الذي كان محبوساً لدى المليشيات بعد انخراطه تماماً في المجتمعات المحلية الرّيفية. كان مختطفوه قد حبسوه في كيس وألقوا به في الماء وأطلقوا النار عليه. لكنه نجح بأعجوبة ووصل إلى كيبيك في حالة من الكآبة الشديدة، لا يقوى على تصوّر مستقبل له إلى يوم أن انخرط في حركة محلّية لإنقاذ نهرٍ في كيبيك. يقول جان ـ برنارد بوكرو أن هذا الشّخص "وجد نفسه في وسط مشابه، وفي مجال يعرفه وله معنى بالنسبة إليه". وهو ما يسمح للشخص أن يعيش متماسكاً ويواصل العيش في ظلّ الحفاظ على كيانه".

وتضرب لوسيل مارتينيز بورخيس مثالاً على ذلك قائلة: "إنّ الأمر أشبه بما نراه في الإعلانات الخاصة بمظهر الشخص قبل العمليات الجراحية التجميلية وبعدها، فمن الناحية الجسدية، ننتقل من شخص بائس ومنحنٍٍ، وباهت الوجه إلى شخص أكثر ثقة بالنّفس، تعلو وجهه الابتسامة؛ وقد استعاد ثقته في المستقبل. ونحن، لو لم نشاهد مثل هذه النتائج أثناء العلاج، فلا أعتقد أنه كان بمقدورنا مواصلة العمل".

ثمّ تضيف: "في بعض الأحيان، نفقد الاتّصال بأشخاص يتّسمون بعدوانية ليست في طبعهم، يغمرهم الحزن أو الاكتئاب، فيفقدون الثقة في الآخر ولم يعد بمقدورهم ربط الصّلة".

وتواصل: "إن منظومتنا تستجيب إلى طلب حقيقي، وأغلب الذين نستقبلهم يستعيدون المعنى لحياتهم. أما ما يثير قلقي فهم أولئك الذين لا يمكنهم الوصول إلينا، ولاسيما الأطفال الذين يعاني الكثير منهم من الصدمات النفسية. ذلك ما يقظّ مضجعي في الوقت الراهن". ومن المقرّر أن تضع خدمات المساعدة النفسية المتخصصة للمهاجرين واللاجئين نصب أعينها المكوّن الطفولي في خريف عام 2021.

* وقع تغيير الاسم

اكتشف هنا التحالف الدولي للمدن المستدامة الشاملة للجميع (ICCAR) ونشاطه من أجل تنمية خالية من كلّ أشكال التّمييز.

مطالعات ذات صلة

التّرحيب بدلا عن المعاداة، رسالة اليونسكو، أبريل - يونيو 2019

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.

تابع رسالة اليونسكو على تويتر، فيسبوك، أنستغرام