بناء السلام في عقول الرجال والنساء

مقابلة

يانيك لاهينز: "هايتي تُسائل الحداثة مُشيرة إلى تناقضاتها وحدودها"

cou_02_21_notre_invite_website_01.jpg

يانيك لاهينز في بيتها، فبراير 2021.

يانيك لاهينز، شخصية لها مكانتها في المشهد الأدبي الهايتي، تتحدّث في هذا الحوار عن أعمالها المستلهمة من الثقافة الشعبية والحية لبلدها، بعيدًا عن الكليشيهات الغارقة في البؤس. سرديّاتها المتفرّدة وحسّها الشعري يحملان صدَى تاريخ الجمهورية السوداء الأولى، التي هي في الآن ذاته "نتاج الحداثة وردّ فعل على هذه الحداثة".

أجرت المقابلة أنياس باردون

اليونسكو  

كيف توصّلتم إلى اختيار الكتابة كطريقة خاصّة جدّا لتسكنوا بها هذا العالم؟

أعتقد أن "الكلمات تختارنا لأننا في وحدة" كما يقول الشاعر الهايتي جورج كاستيرا. فالكلمات تُصبح وسيلة للتواصل مع الجانب الخفيّ فينا، ومع معارفنا الحميمية، ومع أولئك الذين، يسلكون، من خلال قراءة ما نكتب، الطرق المُؤدية إلى عوالمهم الخفية ومعارفهم الحميمية. فأن تكتب يعني أن تتحمّل، في الآن ذاته، وحدتك وتحاول الخروج منها، رغم ما في الأمر من مفارقة.

وأن تكون كاتبًا يعني أنك تشعر بالحاجة إلى إضفاء معنى على الواقع، وأن تصوغه ضمن منظور معيّن أملا في أن تملأ بالكلمات شيئا ما أساسيا ينقصنا، تماما كما يفعل آخرون عن طريق الموسيقى أو الرّسم والألوان.

هلاّ حدّثتينا عن المكان الذي تكتُبين فيه؟

الأماكن التي أكتب فيها في المنزل عديدة (غالبًا ما تكون لديّ قُصاصات ورقيّة صغيرة في جيبي)، لكن مكاني المفضّل هو غرفتي. فوق مكتبي توجد قطعة أتبرّك بها وهي حصاة مصقولة رُسمت عليها سمكة وأعشاب بحرية على خلفية طينيّة اللّون. أعتقد أنها تُلخص جيّدا كلّ ما هو حيّ من معادن وحيوان ونبات. وقد حوّلَتْها اليدُ البشرية إلى قطعةً فنية. 

بورت أو برنس هي الشخصية المركزية في كتابك "الهزائم العذبة" Douces déroutes. كما أن المدينة تتنزّل أيضًا في قلب مؤلّفكِ "الشروخ" أو "الشقوق" Failles، الذي كُتب في أعقاب الزلزال الذي ضرب العاصمة الهايتية في يناير 2010. كيف تلهم المدينة والبلد أعمالك؟

أنا فتاة من هذه المدينة. في مجموعتي القصصية الأولى، "العمّة ريزيا والآلهة" Tante Résia et les dieux، يُوجد نصّ يحمل عنوان "المدينة"، وهو عبارة عن نزهة طويلة لشخصية تحاول المسك بامرأة ترتدي فستانًا أحمر. هذه النزهة ليست في الحقيقة سوى ذريعة لاستحضار تاريخ هذه المدينة وأساطيرها وحاضرها القوي والمُحيّر والحي. ومن ثمّة، أعود إلى ذاتي لأُسائل التاريخ، والأساطير، والجغرافيا، وقوة الحياة، والعالم في الصّورة التي هو عليها بما تحمله من مظاهر عدم المساواة، والمآسي والجمال، رغم كل الصّعاب.

ما هو الدّور الذي لعبته النساء في الأدب الهايتي؟

أعتقد أن دورهن أصبح أكثر وضوحا منذ أواخر الثمانينات، ويعود الفضل في ذلك إلى عمل الجماعات النسوية التي سلّطت الأضواء على الدّور السياسي والتاريخي للنّساء في هايتي. ذلك ما سمح لنا بالعودة إلى الإنتاج الأدبي وخاصة أعمال الروائية والكاتبة المسرحية ماري شوفي التي أدخلت الرواية الحديثة، بصفة فعلية، إلى هايتي بفضل ثلاثيتها "حب وغضب وجنون" Amour, Colère et Folie. مذ وقتها، ظهر جيلان جديدان من الكاتبات. والجدير بالذكر أنهن يكتبن أيضًا باللّغة الكريُولية.

كنتِ أول من حمل لقب كرسي العوالم الفرنكوفونية في الكوليج دي فرانس بباريس، وعنونتِ الدّرس الذي تولّيتِ تقديمه سنة 2019 "إلحاح (إلحاحات) الكتابة، الحلم (الأحلام) بالعيش" Urgence(s) d’écrire, rêve(s) d’habiter عن أي طوارئ تتحدثين؟

لقد وُلدنا في هايتي في حالة طوارئ لم تُفارقنا أبدًا. فالثورة الهايتية، وهي الثورة الثالثة في العصر الحديث بعد ثورة الولايات المتحدة وفرنسا، دفعت بعيدا بمشروع الأنوار بحكم راديكاليتها ولكونها مناهضة للاستعمار والعنصرية والعبودية. فنحن معيار العلاقات التي أنشأتها هذه الحداثة بين الشمال والجنوب والمرجع الأمّ لها.

ولئن حاولت نُخبنا إعادة إنتاج نموذج المدينة الميتروبولية السابقة، فإنّ ثقافة شعبية مناهضة للاسترقاق قد تطوّرت بالتوازي مع ديانة الفودو؛ ومع لغة الكريول، كما تطوّرت أيضًا طريقة معينة لاحتلال الفضاء، وكذلك العلاقات الزوجية، إلخ. كان الكتّاب الأوائل، المنحدرون من النّخبة، يكتبون بالفرنسية تعبيرا منهم عن وجودهم كسودٍ وكبشر. وظهر أدب شفوي باللغة الكرييُولية على امتداد أكثر من قرن نشأت عنه اليوم كتابة. ونحن نستند اليوم إلى هاتين الرّكيزتين.

واليوم، ما زلنا في حالة طوارئ بما أن العلاقات بين الشمال والجنوب لم تتغيّر بشكل أساسي، على حدّ علمي. ومن ناحية أخرى، فإن تواطؤ النخب للحفاظ على هذه العلاقات ما زال جليًّا في دول الجنوب. هذا وقد استطاع الكتّاب والفنّانون عموما أن يبدعوا على خلفية يسودها الشعور بالضيق والغضب وبعزيمة على الكتابة وهم في "في حالة شعرية"، أو كما يقول الشّاعر والكاتب الهايتي ريني ديبيستر: "ازدهرت حالة الشّعر على بُعْدِ سنواتٍ ضوئية من حالات الطوارئ والاستنفار".

في مقالِكِ "المنفى: بين الترسّخ والهروب" L’Exil : entre l’ancrage et la fuite، تُبيّنين أنّ الأدب الهاييتي تشقّه حركة متضاربة بين التّوق إلى الخارج وإرادة البقاء. كيف يُترجم هذا التأرجح؟

هذا التأرجح كان دائما موجودا. في البداية، أذكّر بأنّنا مجتثّون (أو مقتلعون من منشئنا). ثمّ إنّ الكثيرين عملوا على جعل هذه الأرض غير صالحة للسكن، وأخيرًا، فإنّ فكرة أن الأفضل لا يمكن أن يوجد سوى في غير هذا المكان (المقصود به الشمال) مازالت ماثلة في مُخيّلة المستعمَرين السابقين. فتضافر هذه العوامل الثلاثة خلق هذا التّأرجح أو التّذبذب بين الترسّخ والهروب.

كيف تواصل الثورة الهايتية، التي جعلت من هذا البلد أول جمهورية سوداء حرة، مُساءلة الحداثة؟

نحن، في الآن ذاته، نتاج الحداثة وردّ فعل على هذه الحداثة. فنحن حضارة حديثة العهد، وُلدت من الاختلاط والالتقاء بين المحيط الأطلسي وبحر الكاراييب. نحن نُسائل الحداثة لأننا نشير إلى تناقضاتها وحدودها. وجودنا يمثّل، منذ البداية، وسيلة لاقتراح إعادة النّظر في كونية الأنوار.

ماذا يقول الأدب الهايتي اليوم؟

الهجرة هي أحد المصائر الرئيسية لبلدان الجنوب التي أصبحت أراضيها غير صالحة للسّكن. لذلك، هاجر الهايتيون كثيرًا منذ بداية القرن العشرين، حاملين معهم تلك الثقافة التي نشأت في القرن التاسع عشر والتي يُعتبر الأدب تعبيراً عنها مثله مثل سائر الأشكال الفنية الأخرى. هناك آداب هايتية متعدّدة اليوم، منها التي تصدر في هايتي باللغة الكريولية  وبالفرنسية، والتي تُكتب بالإنجليزية في الولايات المتحدة، وما هو بصدد الكتابة بالإسبانية في أمريكا اللاتينية وحتى في جمهورية الدومينيك، وما يكتب بالفرنسية في فرنسا وكندا. هذه الأدبيات هي صورة استباقية عن ذلك العالم الناشئ المتعدّد، وعن التعدّدية اللغوية التي يشير إليها إدوارد جليسان في مؤلّفه "الخطاب الأنتيلي" Le Discours antillais.

يانيك لاهينز

يانيك لاهينز، مؤلفة مقالات وقصص قصيرة وروايات، نذكر منها  "لون الفجر" La Couleur de l'aube، و"حمّام ضوء القمر" Bain de lune ، و"الهزائم العذبة" Douces déroutes. درّست قبل ذلك الأدب في جامعة ولاية بورت أو برنس. حصلت على العديد من الجوائز وتُرجمت أعمالها بالخصوص إلى الإنجليزية، والبرتغالية، واليابانية، والألمانية، والإيطالية. وهي مقيمة في بورت أو برنس.

 مطالعات ذات صلة

هايتي: الهبّة، رسالة اليونسكو، سبتمبر 2010

مقابلة مع ريني ديبيستر: بين الطوباوية والواقع، رسالة اليونسكو، ديسمبر 1997

تكريما لإدوارد جليسان: التفكير في الجميع، رسالة اليونسكو، أبريل - يونيو 2011

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني %100.

تابع  رسالة اليونسكو على تويتر، فيسبوك، أنستغرام