بناء السلام في عقول الرجال والنساء

زاوية كبرى

إصلاح الحياة البحرية

cou_01_21_wide_angle_duarte_website_01.jpg

رغم تقلّصها على نطاق عالمي، فإنّ غابات المنغروف ما فتئت تتقدم في المناطق التي تم فيها وضع سياسات حمائية.

لقد أتت التدابير الرامية إلى حِفظ الحياة البحرية ثمارها إذ مكّنت، إلى حدّ الآن، من وقْف التّدهور لعدد من الأنواع وإصلاح نُظم إيكولوجية بحرية متدهورة. بيد أنّ تعافي المحيطات على نطاق واسع، يتطلب مزيدا من الجهود والمثابرة على مكافحة التلوّث، والصّيد المفرط، والآثار الناجمة عن تغيّر المناخ.

كارلوس م. دوارتي

أستاذ كرسي طارق أحمد الجفالي للبحوث في مجال علوم أحياء البحر الأحمر، جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، المملكة العربية السعودية.

حتى عهد قريب، لم يكن التنوع البيولوجي البحري مدعاة للتفاؤل، فقد فقدنا نحو نصف الكتلة الحيوية لكبرى الحيوانات البحرية ونصف مساحة الموائل الرئيسية للمحيطات تقريبا، بل أكثر من ذلك في بعض الحالات. وقد أكّدت تجربتي الشخصية، للأسف، هذه الإحصائيات المؤلمة.  فقد شاهدتُ، من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، وسواء تعلّق الأمر بنُظم إيكولوجية ساحلية قليلة العمق أو عميقة، نُظما كثيرة من نوع مروج الأعشاب البحرية أو غابات المانغروف أو الشُّعب المرجانية، تتحلّل وتختفي.

بيد أن تغيّراً بدأ يطرأ منذ عام 2010 تقريباً حيث مثّل تراجع معدلات اختفاء بعض الأنواع موضوع دراسات وإصدارات متزايدة، كما تعدّدت مشاريع استصلاح البيئة البحرية، وتكاثرت المناطق البحرية المحمية من حيث العدد والمساحة. فكان أن بادرتُ، صحبة آخرين، بالإبلاغ عن استعادة موائل متنوعة مثل غابات المانغروف أو مروج الأعشاب البحرية أو البحيرات الملحية، إضافة إلى تزايد أعداد بعض الأنواع المهدّدة بالانقراض، من قبيل الحيتان الحدباء وفِيَلة البحر.

ولمعرفة ما إذا كان الأمر بداية لانعكاس الاتجاه من عدمه، أجريتُ تقييما أوليا لأعمال حفظ البيئة البحرية التي يعود تاريخ أقدمها إلى سبعينات القرن الماضي وتبيّن أنّ التعافي بصدد الحدوث في حالات عديدة.

واستناداً إلى هذا التقييم الأولي، جمعتُ فريقاً من الأخصائيين البارزين في مجال البيئة البحرية لإجراء دراسة منهجية عن التقدم المحرز حتى الآن فيما يخص استصلاح الحياة البحرية والإجراءات التي كانت وراء هذه النجاحات. فدَرَسْنا حالة الموائل الرئيسية، ولاسيما مروج الأعشاب البحرية، وغابات المانغروف، والبحيرات المالحة، والشُّعب المرجانية، والغابات العشبية البحرية، والنُّظم الإيكولوجية للمياه العميقة، والصخور البحرية التي يلتصق بها المحار، وكذلك الحيوانات البحرية الضخمة خاصة منها الحيتان، وأسماك القرش، والطيور البحرية، والسلاحف البحرية.

انعكاس الاتجاه

يُبيّن التقييم، المنشور في مجلة الطبيعة Nature في أبريل 2020، أن معدلات اختفاء مروج الأعشاب البحرية، وغابات المانغروف، والبحيرات المالحة قد انخفضت، وأن مساحة هذه الموائل تزداد اتساعا في العديد من المناطق. وبالمثل، زادت أعداد بعض الأنواع البحرية الكبرى، بل إن بعضاً منها أظهر تعافياً مذهلاً حيث سُجّل، ضمن 124 مجموعة من الحيوانات الثديية البحرية، تزايد ملحوظ خلال العقود الأخيرة لـ 47% منها، مقابل 40% لم تتغيّر أعدادها، في حين انخفضت أعداد 13% منها فقط. كما استعادت بعض مناطق الصيد مخزونها بفضل الحدّ من الصيد المفرط خلال العقدين الأخيرين والترفيع في نسبة الموارد السمكية المستغلة بطرق مستدامة. هكذا بدأت سياسات الحفْظ، المعتمدة منذ سبعينات القرن العشرين، تؤتي ثمارها، إذ يتطلب الأمر ما بين عقدين إلى ثلاثة عقود لتحقيق النتائج المرجوّة.

وبالتالي، فإن عكس الاتجاه في المحيطات أمر ممكن إذا ما اتخذنا التدابير اللاّزمة لحفز الديناميكية الذي ولّدتها السياسات الموضوعة منذ عقود. ولقد خلصنا إلى أنه من الممكن التوصل، بحلول عام 2050، إلى استرجاع نسبة كبيرة من الحياة البحرية تتراوح ما بين 70% و90% من استعادة مواردها السابقة.

يقتضي ذلك حماية الأنواع البحرية، المهدّد عدد منها بالانقراض وبعضها على نحو خطير، كما ينبغي حماية المجالات البحرية. وفعلا، ففي عام 2000، لم تكن تتجاوز نسبة مساحة المحيطات المحمية 0،4%، في حين بلغت هذه النسبة عام 2020 ما يقرب من 10% والمتوقع أن تصل إلى 30% بحلول عام 2030. ويتعيّن أن تكون الحماية نشيطة، مستندة في ذلك إلى إجراءات إصلاح وترميم فعالة، فضلاً عن التخلي تدريجياً عن الممارسات المدمِّرة والضارة.

مكافحة التلوّث والصيد المفرط 

يجب أن نقضي على كافة أشكال التلوث بداية من الكميات المفرطة من الأسمدة ووصولا إلى الملوّثات العضوية الثابتة (غير القابلة للتحلّل) والمواد البلاستيكية. ولقد أحرزنا، بالفعل، بعض النجاحات في مكافحة التلوث. وكان الانتقال إلى استخدام البنزين الخالي من الرصاص منذ عدة عقود، على سبيل المثال، سببا في تطهير المحيطات من أحد مصادر التلوث على الصعيد العالمي ومثّل إنجازا بقي مغمورا ولذا وجبت الإشادة به. 

وعلينا، أيضا، أن نعمل على عقلنة الصيد البحري بالتقليل من كميات المصيد من أجل تجديد الموارد السمكية مع مكافحة الصيد غير المشروع وغير المعلن، وهو ما يتطلّب تعزيز التراتيب في هذا المجال، إضافة إلى حسن التصرّف في الموارد السمكية في أعالي البحار بحيث لم يعد مسموحا الاكتفاء بالتقارير الذاتية الصّادرة عن سفن الصيد طالما أن التقدم المسجّل في تكنولوجيا الرّصد عن طريق الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي أصبحا يتيحان مراقبة الأنشطة البحرية لا بالنسبة للصيد غير المشروع فحسب بل فيما يخصّ الاتجار بالبشر والمخدرات أيضا. كما أن تطوير صناعة تربية الأحياء المائية المستدامة، التي تقتصر دورتها الإنتاجية على التربية في إطار الحيازات، سوف يساهم في الحدّ من الضغط على مخزون الأسماك في عرض البحر.

على أنّ التغيّر المناخي يبقى الإطار الذي يندرج فيه نجاحنا. فإن لم نتوصّل إلى الحدّ من هذه التغيّرات من خلال تحقيق أهداف اتفاق باريس، أو حتى تجاوزها، فقد نعرّض العديد من النتائج الإيجابية الحاصلة إلى الخطر، لأن تغيّر المناخ يمثل التّهديد الأخطر على تجديد الشّعاب المرجانية التي هي بصدد التحلّل السريع نتيجة ارتفاع احترار المحيطات ـ حيث ارتفعت الحرارة بدرجة مئوية واحدة مقارنةً بمتوسط درجات الحرارة في العصر ما قبل الصناعي-.

زيادة تخزين الكربون

لقد حان الوقت للارتقاء بتدابير مكافحة ظاهرة الاحترار إلى مستوى أكثر طموحاً إذ  أنّ تجديد الثروة البحرية يستدعي زيادة تخزين الكربون العضوي في المحيطات، وهو ما يساهم أيضاً في التخفيف من التغير المناخي. وسيكتسي تجدّد غابات المانغروف، والبحيرات المالحة، ومروج الأعشاب البحرية فعالية أفضل في هذا السياق، لأن هذه النُّظم الإيكولوجية تحتلّ المكانة الأفضل في المحيط الحيوي لامتصاص الكربون، وتشكّل خط دفاعنا الأول في مواجهة ارتفاع مستوى البحر وتزايد وتيرة العواصف.

وسيكون ضروريا إحراز تقدم عملي للبحث العلمي والتكنولوجي للقيام بهذه الإجراءات بطريقة مُرْضية اقتصاديا. ويعتبر العقد الدولي لعلوم المحيطات في خدمة التنمية المستدامة (2021ـ2030) الذي أعلنته الأمم المتحدة نقطة انطلاق فريدة من نوعها لدعم قدراتنا على تجديد الحياة البحرية. 

بيد أنّ هذا التجديد يتطلّب استثمارات هامّة تُقدّر ما بين 10 و20 مليار دولار أمريكي سنوياً. وقد يبدو هذا المبلغ مرتفعاً لكنه لا يمثل، في الحقيقة، سوى 0،02% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ومع ذلك فهو سيدرّ عائدات كبيرة تُقدّر بنحو 10 دولارات عن كلّ دولار مستثمَر. وستكون شركات التأمين واستغلال المنتجات البحرية، وكذلك صناعة السياحة وعدد كبير من السكان، الذين يعتمدون على المحيطات للحصول على الغذاء والحماية، المستفيد الرئيسي من هذه الاستثمارات.

كما يمكن لعمليات تجديد مناطق الصيد البحري أن ترفّع لوحدها من الأرباح السنوية للصناعة العالمية لمنتجات البحار بنحو 53 مليار دولار، ويتوقّع، أيضا، من عمليات الحفاظ على المناطق الرطبة الساحلية أن يوفّر لقطاع التأمينات نحو 52 مليار دولار سنوياً نتيجة مساهمته في الحد من الفيضانات الناجمة عن العواصف. أمّا مشاريع تجديد الحياة البحرية فمن شأنها خلق الملايين من الوظائف النّافعة والمساعدة على بلوغ هدف التنمية المستدامة 14 للأمم المتحدة

إن تجديد جزء كبير من الحياة البحرية بحلول عام 2050 إنما يشكل هدفاً يمكن تحقيقه، وإن كان بعيد المنال. ويقتضي ذلك إقامة شراكة عالمية تجمع بين المصالح المتنوعة للحكومات، والشركات، ومستخدمي الموارد، والمجتمع المدني، حول خطة عمل تستند إلى معطيات وثيقة، ومدعومة بسند سياسي قوي، وخطة علمية وتربوية، وأهداف كمية، ومؤشرات نجاح، وبرنامج عمل طموح. ويتعيّن على القطاعات الخاصة (المؤسسات التجارية والشركات) الاضطلاع بدور هام، ولاسيما تلك التي تستفيد من الحالة الجيدة للمحيطات. كما يجب أن تكون هناك قيادة قوية قادرة على تحفيز الشراكات، وتنسيق المساهمات، وتجميع الجهود ضمن ديناميكية مشتركة، والحفاظ عليها، وتخطّي العقبات والنكسات.

وإذا ما كُتِب لنا النجاح، فسنكون وضَعنا معلماً تاريخياً على طريق سعي البشرية إلى مستقبل مستدام على الصعيد العالمي. فليس مقبولا أن نورّث محيطات مدمَّرة إلى أجيال المستقبل. ومن ثم فنحن ملزمون أخلاقياً بتحقيق النجاح.

مطالعات ذات صلة

السّلاحف الخضراء تعود إلى جزر السيشيل

البحر وكنوزه، رسالة اليونسكو، يوليوـ أغسطس 1998

المرجان، شاهد على صحة الكوكب؟ رسالة اليونسكو، يوليوـ أغسطس 1994

نداء استغاثة لإنقاذ الحيتان الكبيرة، رسالة اليونسكو، أغسطس ـ سبتمبر 1970

 

اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني 100%.

تابع  رسالة اليونسكو على تويتر، فيسبوك، أنستغرام