
في تاهيتي، التقاليد تسارع إلى إنقاذ البحيرة
cou_01_21_wide_angle_tahiti_website_01.jpg

في جنوب الجزيرة، أُعيد العمل بتقليد "الـّراهْوِي"، وهو إجراء يمنع الصيد خلال فترةٍ محدّدة، بهدف السّماح للحياة البحرية بالتجدّد.
إستير كونيو
صحافية في بابيت
بعيداً عن ضجيج العاصمة بابيت، تبدو الغابة الكثيفة في تلك المنطقة التي لا تجتازها أيّة طريق سالكة، أكثر سكوناً وأمانا تحت المطر. هذه "الأرض المحبوبة من الآلهة" أو "فينوا هيري هيا تي آتوا" كما يسمّيها القدامى في اللّغة التاهيتية، تشير إلى شبه جزيرة تايارابو الواقعة في الجنوب الشرقي من جزيرة تاهيتي. وهي معروفة أكثر باسم "فينوا أيْهيري" أي "أرض الأحراش"، وتمثّل آخِر منطقة غابيّة بريّة في الجزيرة الرئيسية لجزُر بولينيزيا الفرنسيّة. ويتقاسم هذه الأراضي الخضراء إقليمان إداريّان هما تيهوبو على الساحل الغربي وتُوتيرا شرقاً.
ولا تزال الغابات العذراء المنتشرة في المنطقة تضمّ العديد من "الماريات" marae أي الفضاءات المقدّسة التي كانت تُقام فيها طقوس العبادة البولينيزيّة القديمة. وهذا ما يجعل السكّان الستّمائة لـفينوا أهيري يعتقدون أنّ أرضهم مفعمة بالـ "مانا"، تلك الطاقة المنبعثة من الطبيعة.
تؤكّد آنيك باوفيه، المناضلة ورئيسة جمعية "الدفاع عن فينوا أهيري" أنّ: "المانا موجودة لأنّ هذه المنطقة مَحميّة. إنها مكانٌ سِحريّ. واحتراماً لأولئك الموجودين في عالم الماوراء ينبغي ألا تُشيّد فيها الطّرُقات". وبالفعل، فإنّ القلّة من سكّان المدينة الذين حاولوا الدفاع أمام المَحاكم عن شقّ طريق سالكة توصلهم إلى مساكنهم الثانويّة قد خسروا دعاويهم. وتؤكّد آنيك باوفيه: "من أراد أن يسكن في فينوا أهيري، لا خيار له سوى المجيء سيرا على الأقدام أو في زورق أو سفينة".
ولكنْ هنا، كما في أماكن أخرى من العالم، بدأت حالة البحيرة في التدهور منذ تسعينيّات القرن الماضي. وظهر اختلال التنوّع البيئيّ من خلال تراجع الثورة السّمكية، وتزايدِ الأصناف المجتاحة كنجم البحر الشوكي الملتهم للمرجان (أكانثاستر)، وتضاؤلِ عدد من الأنواع الخاصّة بالمنطقة كالسمك الجرّاح والنابليون.
هذا، وقد نشبت نزاعات بين صيّادين جاؤوا من خارج المنطقة، جذبتهم غزارة الموارد السمكية، وصيّادي تياهوبو. إزاء هذا الوضع، تعالت منذ نهاية التسعينات أصوات تطالب بتنظيمِ استغلال أفضل لمياه البحيرة. وتروي آنيك باوفيه أنّ "صيّادين محليّين شعروا بالخوف وطلبوا منّي تأسيس جمعيّة لإعادة العمل بتقليد الرّاهْوِي".
تحالف السياسيّ والمقدّس
منذ عقود من الزّمن، وقع التخلّي عن ممارسة " الرّاهْوِي"، وهو من الطّقوس التقليدية التي تحرّم النّفاذ إلى مجال بحريّ معيّن أو تحدّ منه وتمنع الحصول على مورد من موارده أو بعض منه خلال فترة محدّدة. وهذا التحريم، الذي تُقرّره عشيرة ما أو زعامة تقليدية، كان في الأصل مرتبطاً بالشأنَ السّياسيّ وبالمقدّس في الآنٍ ذاته. وكان التابو tapu، وهو الحظْر المؤقّت، يلقى تكريسه في طقس تعزيميّ مقدَّس يقوم به آرييي ari'i (ملك) أو تاهوا tahu'a، وهو وسيط يؤمّن الصلة بين عالم الأرواح ودنيا الأحياء. يقول جيرار باركر، العمدة السابق لـتياهوبو، أنّه "في القرن الثامن عشر، عندما أقام المحارب فيهياتوا نظامَ الرّاهْوي في تياهوبو، كان كلّ من يخرقه يُعاَقب بالموت".
ويوضّح إيف دودوت، العضو المؤسِّس في جمعيّة هورورو، والمُدافِع المتحمّس عن التراث الثقافيّ أنّ "تدخّل عالَم الأرواح هذا يدوم طالما احتاجت إليه الطبيعة والحيوانات والأشجار والأسماك لتتجدّد". ويعود سِرّ نجاعته إلى "المانا"، التي تتنزّل في قلب الثقافة البولينيزيّة. وقد كتب برنار ريغو، المسؤول السابق عن مختبر الأبحاث في مجال العلوم الإنسانية بـبولينيزيا الفرنسية أنّ البولينيزيّين، "كانوا قبل الاحتكاك بالغرب، لا يعيشون في الطبيعة، بل في ارتباطٍ بقوى محمّلة قداسة".
وبقدر ما كان الصيّادون متحفّظين إزاء المجالات البحرية المحمية التي ضبطتها السّلط، أبدوا قبولا إيجابيا بإعادة العمل بـالرّاهْوي. وقد أكّد إيف دودوت أنّ "الـرّاهْوي يستمدّ نجاعته من كونه يتميّز عن الحظر الإداريّ بقوّته الرّدعية ذات الطبيعة المقدّسة". ويرى برنار ريغو أنّ "السلطات البشرية الصرفة والاعتباطية لا تتمتّع سوى بقوّة إقناع ضعيفة". ويضيف أنّ العقوبة في علاقة بالـّراهوي "يتعذّر الإفلات منها، لأنّ خرْقه يمثّل قطيعة في الدّورة المقدّسة، ومخالفة من هذا القبيل من شأنها أن توجّه كلّ الطّاقة ضدّ المخالف".
عودة الأسماك
في البولينيزيا الفرنسية، كان سكّان رابا (أرخبيل الأُسترال) وسكّان ماياوو (أرخبيل جزُر الجمعية) أوّل من أعادوا العمل بالـرّاهْوي في جزء من جزُرهم في بداية الألفية الثانية.
وقد وجب انتظار سنة 2014 لإقامة راهوي على مساحة 750 هكتاراً من بحيرة تيارابو الشرقيّة تُشرف عليه لجنة تسيير مؤلّفة من منتخَبِين، وممثّلين عن الصيّادين، وجمعيات محليّة، وعلماء، وممثّلين عن إدارة البيئة. تقول آنيك باوفيه: "الـرّاهوي عندنا عادةٌ لم تعد موجودة منذ عهد بعيد. وقد استغرقت العودة إلى ممارسته زمناً طويلاً". واليوم، أصبح الـرّاهوي يتمتّع، بفضل تعاون سكّان فينوا أهيري منذ 2016، بحماية قضائية بمقتضى قانون البيئة حيث تنصّ المادّة LP 2122-1 على أنّ "الـرّاهوي مجال بريّ و/أو بحريّ تسري عليه قواعد غير مكتوبة، تُمليها ضرورات إدارة الموارد الطبيعية، وتطبّق بطريقة تقليدية".
يغطّي الـرّاهوي اليوم 5% من البحيرة. وبعد ستّ سنوات من استعادة العمل به تبدو المعاينة واضحة من خلال عودة الأسماك. ولكن لا يعني هذا رفع الحظْر بل إنّ لجنة إدارة البحيرة تفكّر في إدامته خشية تدهور الأنواع البحرية من جديد.
وتحذّر رئيسة الجمعية قائلةً: "الأسماك عادت من جديد لكن لو رفعنا الحظر فلن يمضي وقت طويل حتى تنفد الثروة السمكيّة". ذلك أنّ مياه البحيرة الغنيّة بالأسماك تجذب الأطماع دوماً. ولئن يوجد عون واحد فقط، مكلّف رسميّاً بحراسة الموقع، فإنّ أبناء المنطقة ساهرون بدورهم على حمايتها. وتضيف آنيك باوفيه: "في اللّيل، يحدث أن نلمح مصابيح يدويّة تجول، وقتها نتدخّل حالاّ".
معركة السّاحل
يودّ بعض سكّان فينوا أهيري اليوم توسيع الحماية التي تغطّي المنطقة البحرية لتشمل السّواحل البريّة. وتقرّ آنيك باوفيه بأنّه "لا يمكن حماية المجالات البحرية من دون إدراج الساحل، لكنّ إقناع السكان لن يكون سهلا". وفعلا، فإنّ هذه المنطقة التي تأوي مسار التجوّل الشهير "تي باري"، بأجرافه الصخريّة البازلتية الغائصة في المحيط، تمثّل مقصدا هامّا للمتجولين على الأقدام. ولئن بقيت هذه البقعة الفردوسية الصغيرة محميّة من كلّ نشاط إنسانيّ، فإنّ البحيرة المتاخمة لمدينة بابيت ما فتئت تمتلئ على نحو منتظم بالترسّبات في موسم الأمطار بفعل الأخاديد الناجمة عن الزّحف العمراني على سفح الجبل.
لقد استطاع الـرّاهْوي المتأصّل في التقاليد أن يفرض نفسه، مع مرّ السّنين، كطريقة في الإدارة المستدامة للموارد البحريّة. وتشير دراسة نشرتها وكالة الاستشارات ألفيا كونسولتنغ في 2019 إلى أنّ الـرّاهوي يحظى اليوم بتأييد 90% من سكان بولينيزيا الفرنسية. وقد عقّب إيف دودوت على ذلك بقوله: "إنّه أمر يبعث على الاطمئنان إذ يثبت أنّنا قادرون اليوم على أن نعيش مثل أسلافنا بفضل هذا النظام"، ويطالب بإقامة منطقة للـرّاهوي في وادي بابينو شمال الجزيرة، قائلا: "ينبغي أن نعود إلى المقدّس، وإلى المصلحة العامّة. لا خيار آخر لدينا. فعندما يعيش المرء على متن زورق عليه أن يكون هو والعالَم واحداً".
مطالعات ذات صلة
"عندما تشرب من الماء فكّر، في النبع"، رسالة اليونسكو، يناير-مارس 2019
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني 100%.