
الجائحة، مرآةٌ لهشاشة أوضاعنا
cou_03_20_sharma_website_site_photographer.jpg

لقد أزاحت الأزمة الصحية السّتار عن التصدّعات والشّروخ التي تشقّ مجتمعاتنا، من عنف قائم على الجنس، وظروف سكن مزرية، وضعف الأنظمة الصحية. وإذا ما أردنا تغيير هذا العالم، فعلينا أن نرفع التحدّيات التي لم نتمكّن من مواجهتها حتى الآن.
كالبانا شارما
صحافية مستقلة، ومُعلّقة، وكاتبة، مقيمة في مومباي. آخر مؤلّفاتها: الصمت والعاصفة: سرديّات العنف ضد المرأة في الهند.
لو تأمّلنا مليّا في الأفق لأمكننا رؤية قاربِ صيدٍ صغيرٍ بالعين المجرّدة، وأدركنا، وقتها، أن شيئًا ما قد تغيّر. فالسّحابة الرّمادية الخانقة، التي تعوّدنا عليها، قد اختفت، والهواء أصبح نقيّا، واستعادت السماء تلك الزّرقة التي نسينا وجودها.
العالم تغيّر في هذا العام من 2020. فيروسٌ جديدٌ جعل كوكبنا يختنق بكل ما في الكلمة من معنى. ففي كل يوم يتعاظم الشكّ، وتتضاعف العدوى، ويرتفع منسوب القلق بخصوص مَواطن الشّغل وتدهور الوضع الاقتصادي أمام مرض لم يوجد له (حتى الآن) أي علاج.
لا شيء كان يجعلنا مستعدّين لهذا الوضع غير المتوقّع. بيد أنه إذا كان هناك من درس مستفاد فهو أنّ الدول التي قامت بالاستثمار اللاّزم لتمكين مواطنيها من الاستفادة من رعاية صحية متاحة، يسهل الوصول إليها، هي اليوم الأكثر جاهزية لمواجهة هذه الأزمة الصحية.
كان مؤمّلا، بالنّظر إلى طبيعة هذا الفيروس الجديد القاتل والسريع العدوى، أن تتّحد الدول والشعوب لمحاربته. لكن الذي حدث هو العكس حيث كشفت الأزمة عن الشروخ التي تَشُقّ مجتمعاتنا.
خطوط الشّرخ
في حين أن الفيروس لا يختار ضحاياه، فإن مجتمعاتنا تعيد إنتاج المظاهر القديمة للتمييز تجاه "الآخر"، سواء بسبب اختلاف الدين أو العرق. وعوض أن تساهم الجائحة في محو الكراهية والأفكار المسبقة فإنّها زادت، للأسف، في تفاقمها.
أمّا الشّرخ الآخر فهو عدم المساواة. فالأزمة الحالية مكّنت من الوقوف، أكثر من أي وقت مضى، على ما سمّاه رجل الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي "عنف اللاّمساواة". فالناس القابعون في أسفل السلّم، والمحرومون من كلّ حماية اجتماعية، يكافحون من أجل البقاء أمام هذه الجائحة العالمية.
في الهند أخذ "عنف اللاّمساواة"، في الأشهر الأخيرة، شكلًا مأساويًا جرّاء الحجر الصحي المفروض على جميع السكان، أي 1.3 مليار شخص، حيث تُرك الآلاف من الرجال والنساء إلى مصيرهم، يهيمون دون سند في المدن التي هاجروا إليها بحثًا عن العمل بعد أن فقدوا شغلهم مع توقّف الاقتصاد. ونظرا لحرمانهم من أي دخل أو ضمان، لم يبق لهم من خيار سوى العودة مشيا على الأقدام إلى قراهم التي تبعد مئات الكيلومترات.
هذه المسيرة القسرية في طقس حارّ، مع القليل من الطعام والماء، قضت على العديد منهم ولم ينجو سوى القليل. ولعلّ صور مسيرة المهاجرين الريفيين أفضل شاهد على أنّ النماذج غير العادلة للتنمية الاقتصادية لا يمكنها، في حالات طوارئ صحية مثل هذه، سوى أن تزيد من معاناتهم.
ويتمثّل الشرخ الثالث، الذي يشقّ كافة المجتمعات، ويصبح صارخا في أوقات الأزمات بالخصوص، في التفاوت بين الجنسين. فقد اضطرّت العديد من النساء إلى الالتزام بالحجر الصحي صحبة المعتدين عليهنّ، نظرا لأنّ الوضع لا يُوفّر لهن الكثير من سبل الهروب. وهي ظاهرة لا تحظى، للأسف، بالاهتمام الذي تستحق، ولعلّها تُفسّر بأنه طالما يحدث هذا الانتهاك لحقوق ملايين النساء عبر العالم، على نحو "طبيعي"، في الأوقات "العادية"، فـعاديّ أكثر أن يحدث أوقات الأزمة!
الفقر الحضري
في العديد من الدول، كان الفيروس أكثر فتكا في المدن. فالمساكن المُكتظّة، والتي كثيرا ما تكون غير صحيّة، كانت ملائمة لانتشار المرض. كما أن رداءة البنية التحتية للصحة العموميّة قلّصت من حظوظ النجاة من الوباء بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في مثل هذه الظروف وخاصة في البلدان الأكثر فقراً.
هؤلاء الرجال والنساء، الذين يعملون في قطاع الخدمات، والبناء، والصناعات الصغرى، وكمُعينات منزليّة، وغيرها من القطاعات الأخرى، يُمثّلون عماد مدننا. وأغلبهم يتقاضى أجراً زهيدا ويعيش في مناطق حضرية فقيرة مكتظة بالسكان، وغير مزوّدة بمياه الشرب، وتشكو من نقص فادح في شبكات الصّرف الصحي.
في مثل هذه الأوضاع، يستحيل مراقبة انتشار الفيروس، ويصبح التّباعد الجسدي، بحكم ضيق الفضاء لا معنى له. كما أن نقص المياه الجارية يجعل من إجراءات النّظافة، مثل غسل اليدين المتكرّر وتطهير الأسطح، أمرًا مستحيلاً.
إن مسألة المساكن الاجتماعية قلّما مثّلت أولوية في مدننا. وها نحن نُشاهد اليوم العواقب من خلال الأعداد المهولة للحالات الجديدة المسجّلة في عدد من الأحياء الأكثر فقرا داخل المدن، سواء كانت في مومباي أو نيويورك.
بشرى مخادعة
صحيح أن تقرير الطاقة العالمي لسنة 2020، وهو التقرير الرئيسي لـوكالة الطاقة الدولية الذي صدر في أبريل، يتوقع انخفاضًا قياسيًا في انبعاثات الكربون بحوالي 8٪ هذه السنة. وهو خبر سارّ دون ريب. إلا أنه يمثّل نتيجة سعيدة لأزمة تعيسة، وليس نتيجة إجراءات في مكافحة الأخطار الحقيقية لتغيّر المناخ.
لقد غيّر فيروس كورونا أشياء كثيرة في حياتنا، ولم يُغيّر، في نفس الوقت، أي شيء. فلا شيء ينبئ بأننا، بمجرّد انتهاء هذه الأزمة، سوف لن نستأنف العيش بنفس الطريقة التي كنّا نبذّر بها مواردنا. وقليلة هي المُعطيات التي تدلّ على وجود مخططات ملموسة لإعادة تنظيم مدننا بشكل دائم يتيح للفقراء، مثلا، إمكانية العيش الكريم، أو منح الأولويّة للنقل العمومي الصديق للبيئة.
تنتظرنا تحديات عديدة بدءًا بالإصلاح العميق لأنظمتنا الصحية. فالبلدان والدول الفدرالية والمقاطعات التي سجّلت أفضل النتائج في هذه الأزمة هي تلك التي استثمرت في نظام صحّي عام عالي الجودة.
ويتمثّل ثاني التحديات في معالجة أوجه عدم المساواة المتأصلة في مجتمعاتنا، لأن أفضل النُّظُم محكوم عليها بالفشل في مجتمع غير متكافئ. ويتطلّب الأمر مشروعا طويل المدى لا يمكن تحقيقه، طبعا، بين عشية وضحاها. إلا أنّه طالما تواصل التّفاوت في النّظام القائم، وسواء كان اقتصاد الدولة قويًا أو ضعيفا، فإن الأزمات ستأتي على الضّعفاء وعلى أصحاب الأوضاع الهشّة قبل غيرهم.
وكما قال المهاتما غاندي: "هناك ما يكفي في العالم لتلبية احتياجات الإنسان، ولكن ليس هناك ما يكفي لإشباع جشعه". فالجشع هو الذي يغذّي اقتصاداتنا بعد أن فقدت الحدود فعاليتها أمام الأطماع الاستهلاكية العالمية. وهو الذي يهدّد، أيضا، مستقبل كوكبنا بالتهامه الموارد الطبيعية دون أن يُعوّضها.
لقد أجبرَنا فيروس كورونا على إبطاء النّسق. ولكن، هل سنشهد، بعد تجاوز الأزمة، ظهور نظام عالمي جديد؟ وهل سندرك هشاشة وضع الملايين منا؟ وهل سنُنصت إلى أصوات النساء والسكان الأكثر ضعفا حال عودة ضجيج النشاط البشري؟
لا توجد إجابات بسيطة على هذه الأسئلة. لكن حان وقت طرحها. كما حان الوقت لنُدرك أن اختفاء السماء الزرقاء ليس أمرا حتميا.
قراءات تكميلية
تحديات مناخية، تحديات أخلاقية، رسالة اليونسكو، يوليو-سبتمبر 2019
هذه المدن التي تُجدّد نفسها، رسالة اليونسكو، أبريل-يونيو 2019
العدالة والكرامة، رسالة اليونسكو، أكتوبر-ديسمبر 2011
غداً : اقتصاد انساني، رسالة اليونسكو، سبتمبر 2000
تحديات التحضر في دول الجنوب، رسالة اليونسكو، يونيو 1999
طفرات الكراهية، رسالة اليونسكو، مارس 1996
الإعلام عن العنف ضد الفتيات والنساء: دليل للصحفيين، اليونسكو، 2019
اشترك في رسالة اليونسكو لمتابعة الأحداث. الاشتراك في النسخة الرقمية مجاني 100%.
تابع رسالة اليونسكو على تويتر، فايسبوك، أنستغرام