سارة ويلكوكس (الولايات المتحدة) هي مديرة صندوق إغاثة الباحثين التابع للمعهد العالمي للتربية حيث تعمل منذ 2003. ومن مقر إقامتها بنيويورك، تُشرف على أنشطة الصندوق، مثل الشراكة، والاستراتيجية العامة، والتحسيس، والاتصال.

في عالم تُمزّقه الحروب، يحتاج الباحثون المُهدّدون في حرياتهم الفردية والفكرية، إلى فرصة ثانية لمواصلة أشغالهم في محيط آمن. وكان آينشتاين قد صرح سنة 1933: بدون هذه الحريات لما كان أن يوجد شكسبير، ولا غوته، ولا نيوتن، ولا باستور، ولا ليستر... فالرجال الأحرار هم الذين يُنتجون الاختراعات والأعمال الفكرية التي تجعل حياتنا، نحن معشر الحداثيين، جديرة بأن نعيشها.
سارة ويلكوكس
طيلة عشرات السنين، واصل باحث في الفيزياء النظرية التدريس والبحث العلمي، متحديا الشبهات الموجهة له من قبل السلطة، ومواجها إهانات المراقبة والقمع. تلقّى تكوينه في أوروبا، وكانت منشوراته كثيفة، ونحت لنفسه شهرة عالمية. لكنه تحمّل المعاناة طيلة عقود جراء دفاعه عن الحريات السياسية في بلاده وعن حقوق طلبته في النضال من أجل ذات الحقوق... لينتهي به المطاف إلى الهروب بحثا عن الأمن في الجامعات الأمريكية.
لسنا في ثلاثينات القرن الماضي. وهذا الباحث في العلوم ليس ألبار آينشتاين. الواقعة أحدث من ذلك بكثير. ففي سنة 2012، طلب هذا العالم المساعدة من صندوق إغاثة الباحثين التابع لمعهد التربية الدولية، البرنامج الذي أتولّى تسييره. هذا العالِم المشهور هو واحد من بين آلاف العلماء الذين اضطرّوا لمغادرة بلدانهم نهائيا. وها نحن نقطف اليوم ثمرات هذا الوضع، إذ أنه يدفع بالعلوم إلى تجاوز الحدود، وفي ذلك نفع للبشرية جمعاء.
التاريخ يُعيد نفسه. ويحقّ لنا إذن أن نأمل في أن نجد في الدروس التي استخلصناها من الماضي، ما يحمينا من تجدد الأزمات. لكن، ها نحن في سنة 2017، سنة أخرى تنتهي على وقع اهتزاز حياة الآلاف جرّاء العنف وعدم الاستقرار.
حوالي 65،5 مليون نسمة تمّ نقلهم عنوة، و22،5 مليون لاجئ و10 ملايين مُشرّد: تلك هي الحصيلة العالمية حسب الجرد الذي قامت به المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة. أي أن معدّل عدد المطرودين من بلدانهم جرّاء النزاعات والاضطهادات يبلغ 28.300 ذاتا بشرية في اليوم الواحد.
أرقام مُفزعة، وكثيرا ما نتقبّلها على أنها حتمية. لكن، لنُخصّص شيئا من الوقت كي نتخيّل الحشود التي لا تُحصى من الأشخاص الذين أُجبروا على التنقّل في القرن الماضي. نحن نعلم جيّدا أنهم لم يكونوا «مجرّد» لاجئين. لقد كانوا آباء وأمهات، إخوة وأخوات، أحفادا وأبناء إخوة. وهم أيضا جيران وأفراد كاملو العضوية في مجتمعاتنا. لقد وضعوا أسس مُدُنِنا وكثيرا ما اخترقوا الحدود الوطنية ليكونوا الجسر الذي تمرّ عبره ثقافاتنا واقتصادنا. وقام بذلك العديد منهم بفضل أعمالهم: التدريس في الجامعات المحلّية ونشر آخر الاكتشافات العلمية. هؤلاء هم رواد محتشمون، يُطوّرون العلوم في كل أنحاء العالم.
في سنة 1933، عندما وصل هتلر إلى السلطة، كان ألبار آينشتاين، من حسن حظّه، في الولايات المتحدة. وإثر النهب الذي تعرّض له منزله، تيقّن أنه لم يعد بإمكانه اعتبار ألمانيا وطنه. وبعد إقامته لفترة قصيرة في أوروبا، عاد إلى أمريكا حيث دخل معهد الدراسات المتقدمة المُحدث في برينستون بولاية نيو جيرسي. ولا حاجة لنا لفهم نظريات آينشتاين لتقييم مدى مساهمتها العظيمة في العلوم.
القليل منّا يعرف أن آلاف العلماء والباحثين ممّن هربوا خلال القرن الماضي من أوروبا التي مزقتها الحرب، تفوّقوا في الدول التي استقبلتهم، حتى عندما كانوا منبوذين بشكل مُخجل من قبل شركات ومؤسسات تلك الدول. في الثلاثينات والأربعينات، تولّت هيئة المساعدة الطارئة للباحثين الأجانب الذين أُجبروا على التنقل، وهي ائتلاف لجمعيات لغوث اللاجئين –ومنها معهد التربية العالمية- إعانة ما يُقارب 400 باحث للحصول على وظيفة أستاذ بالجامعة، من بينهم 100 مختص في الفيزياء.
وبيّنت الأستاذة في الاقتصاد بيترا موزر أن إيداعات براءة الاختراع، في الولايات المتحدة فقط، تطورت بنسبة 30% في المجالات الأكثر انتشارا بين العلماء اليهود خلال الثلاثينات. ولقد كان لذلك تأثير لا يُقدّر على الأجيال اللاحقة.
وفي عهد آينشتاين أيضا، فرّ أروين شرودنغر من النمسا، مسقط رأسه، بسبب الاضطهاد المسلط عليه، ليلتحق بمعهد دبلن للدراسات المتقدمة في نهاية الثلاثينات. وبفضل أعماله في الفيزياء النظرية، حصل على جائزة نوبل سنة 1933. كما أن هانس بيث، فيزيائي آخر ألماني-أمريكي، مختص في الفيزياء النووية وحائز على جائزة نوبل في الفيزياء سنة 1967، لعب دورا أساسيّا في إعداد القنبلة الهدروجينية. وهو الذي قام بعد ذلك، صحبة آينشتاين، بحملة ضد التجارب النووية والسباق نحو التسلّح.
أكثر من ثلث جوائز نوبل المُسندة للولايات المتحدة في مجال العلوم والتكنولوجيات والهندسة والرياضيات توّجت علماء من أصل أجنبي. ويتواصل اليوم الاحتفاء باللاجئين باعتبار المساهمات التي قدموها للعلوم وللمجتمع، بعد أن توفّرت لهم فرصة ثانية. أما سرجي برين، الذي شارك في تأسيس غوغل والرئيس الحالي لشركة ألفابي، الشركة الأم لغوغل، فلم يتجاوز عمره الست سنوات عندما فرّت عائلته من الاتحاد السوفياتي في 1979، لتستقرّ في الولايات المتّحدة.
منذ سنة 2002، يواصل صندوق إغاثة الباحثين، التابع لمعهد التربية الدولية، عملَ هيئة المساعدة الطارئة، وذلك بمدّ يد المساعدة إلى الباحثين الذين عانوا من النزاعات والاضطهادات. وكان أغلبهم مُجبرا على التنقّل أو مُهدّدا بالهجرة الدائمة. وقد كانوا مُستهدفين من طرف أنظمة عنيفة بسبب أشغالهم، أو ديانتهم، أو أصلهم العرقي أو بصفة متزايدة بسبب مساندتهم لزملائهم الباحثين. بين سنتي 2007 و2013، عندما كان النزاع العراقي على أشدّه، قمنا بمساعدة مئات من العلماء على الحصول على وظائف في جامعات الدول المجاورة، بعد أن تلقّوا رسائل مجهولة المصدر فيها تهديد لوظيفتهم، ثم لعائلاتهم. مثل هذه الاضطرابات من شأنها أن تشُلّ حركة أيّ كان. ومع ذلك، بعد بضع سنوات من الهدنة صلب هذه المجموعة من المهاجرين، عاد أغلبهم إلى العراق فيما واصل آخرون أشغالهم في المنطقة. عدد كبير منهم يُساعدون على إعادة بناء الجامعات العراقية.
وبحكم تجربتنا، فإننا نعلم أن في كلّ سنة، يحتاج آلاف الباحثين إلى مكان آمن، لمواصلة عملهم. وفّر برنامجنا دعما ماليّا ويسّر ربط العلاقات اللازمة لأكثر من 700 باحث من 43 دولة. كما قدّمت جمعيات أخرى تُعنى باللاجئين مساعدات لآلاف الباحثين. إلا أنه يبقى من الصعب تقدير عدد العلماء الذين أُجبروا على التنقّل وخسروا شُغلهم بشكل نهائي، دون أن يحظوا بإمكانية مغادرة بلادهم ليواصلوا تعاطي مهنتهم في سلام.
ويعاني المئات من العلماء الذين أُجبروا على التنقّل، من جراء صدور منشوراتهم في زمن لم تكن تُوجد فيه إمكانية النشر عبر النت، أو بسبب عدم تمكّنهم من تجاوز الحواجز اللغوية. وبدون سند مالي فوري –منحة للدراسات أو للبحث- ولا باب مفتوح على الجامعة أو معهد للبحث، فإن الباحث المتواضع الذي لا يملك سمعة آينشتاين ليس له أي أمل في التمكن من مواصلة أشغاله. وقد ضاعت سنوات من التكوين ومن الفرص الاجتماعية، مما خلف أضرارا لا تحصى على مستوى التقدّم العلمي .
إن صندوق إغاثة الباحثين هو ثمرة تقاليد عريقة صلب معهد التربية العالمية، لمساعدة الطلبة والعلماء المُهدّدين. وهو يندرج اليوم ضمن البرامج الرسمية، وعددها قليل، التي تُقدّم مساعدة حاسمة للجامعيين المُعرّضين للخطر. أُنشئ مجلس الأكاديميين المعرضين للخطر سنة 1933 من قِبل صفوة البحث البريطاني بعد أن قرر هتلر طرد المئات من الجامعيين الألمان المرموقين لأسباب عنصرية. وللمجلس علاقات تعاون وثيقة مع شبكة علماء في خطر التي أُنشئت سنة 2000، ومع مبادرة فيليب شفارتز من مؤسسة ألكسندر فون هامبولت الألمانية. كما تقوم المؤسسة الفرنسية للبحث العلمي كولاج دي فرانس بتيسيراستقبال العلماء اللاجئين من خلال برنامجها «بوز». أما الأكاديمية العالمية للعلوم، وهي أحد برامج اليونسكو ومقرّها في ترياست بإيطاليا، فهي تساند العلماء المهاجرين وخاصّة منهم القادمين من الدول النامية.
في بلجيكا، وفي بقية دول الاتحاد الأوروبي، وفي كندا وفي الأردن، تُوجد أيضا جمعيات وجامعات تُساعد الباحثين المهاجرين. لكن الطريق يبقى طويلا حتى تتمكن الطاقات الفكرية في العالم من زرع بذور الابتكار والاكتشاف لما فيه خير للأجيال القادمة.