عندما كان نيلسون مانديلا محتجزاً في زنزانة سجنه على جزيرة روبن كانت الفرص المتاحة له للاطلاع على ما يدور من أحداث في العالم قليلة جداً. وبعد ذلك بعدة أعوام، أخبر نيلسون مانديلا فيديريكو مايور، المدير العام لليونسكو الذي كان يجري في سنة 1996 زيارة رسمية إلى جمهورية جنوب أفريقيا الجديدة الحرة، بأن مجلة "رسالة اليونسكو" كانت النافذة التي يطل منها على العالم. وشرح الرئيس كيف كان يشعر هو ورفاقه بالسرور لقراءتهم "رسالة اليونسكو" التي تعرفوا من خلالها على فكرة التنوع الثقافي وتراث البشرية المشترك والتاريخ الأفريقي والتعليم من أجل التنمية وغيرها. وقد كتب فيما بعد أنار قسّام من اليونسكو، الذي حضر ذلك الاجتماع، أن أياً من هذه المواضيع لم يكن مدرجاً ضمن مفردات الفصل العنصري، ناهيك عن الحبس الانفرادي في جزيرة روبن.
وقد جسدت اليونسكو لأجيال طموحات كبيرة وآمالاً وكفاحاً مستمراً للتمتع بحياة أفضل قائمة على أسس كرامة البشر وتفاهمهم وتضامنهم. وترد هذه المثل والقيم في ميثاق المنظمة التأسيسي، الذي يعد أساساً لفهم تاريخ اليونسكو.
التأسيس
اعتمد ممثلو أربعة وأربعين بلداً متحالفاً ميثاق اليونسكو التأسيسي في لندن في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1945. وكانت تلك هي لحظة إنشاء اليونسكو التي جاءت نتيجة لسلسلة اجتماعات ومؤتمرات لوزراء التربية في الحكومات المتحالفة، عُقدت في لندن بين عامي 1942 و1945، وبعد ذلك بعام واحد، في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1946، ولدت المنظمة الجديدة رسمياً بحصول ميثاقها التأسيسي على عشرين تصديقاً.
وكانت رسالة المنظمة الجديدة، كما اقترحها الشاعر الأمريكي ورئيس وفد أمريكا أرشيبالد ماك ليش، "بناء حصون السلام في عقول البشر". وينبغي لليونسكو أن تعمل على تحقيق هذا الحلم المثالي من خلال التعليم والثقافة والاتصال. فمهام اليونسكو متنوعة غير أن هدفها واحد وهو السلام.
العلوم الاجتماعية والإنسانية
اعتبرت اليونسكو منذ البداية تعزيز التفاهم الدولي شرطاً مسبقاً لدرء تكرار جرائم ومآسي الإبادة الجماعية والعنصرية والحروب. ولذلك كلفت المنظمة خبراء في مفهوم العنصر بإجراء دراسات أفضت إلى صدور إعلاني اليونسكو بشأن العنصر في عامي 1950 و1951. وقد استخدَم هذين الإعلانين اللذين أعدهما علميون واللذين يشجبان العنصرية، ناشطون في مجال الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية في حملاتهم ضد التفرقة العنصرية. وفي عام 1955، انسحبت جنوب أفريقيا من اليونسكو اعتراضاً على "التدخل في المشاكل العنصرية فيها من خلال منشورات اليونسكو..."، ولم تعاود الانضمام إلى المنظمة إلا في عام 1994 عندما أصبح نيلسون مانديلا قائداً لجنوب أفريقيا حرة وديمقراطية. وانطلاقاً من المبدأ نفسه، وكجزء من عملها في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، استهلت اليونسكو في عام 1950 مشروع تاريخ البشرية الذي كان المشروع الأول بين عدد من الأنشطة في مجال التاريخ تضمنت تاريخ أفريقيا العام (الذي استُهل في عام 1964). وجاءت هذه المبادرات خطوات ملموسة لمتابعة ما ورد في الميثاق التأسيسي لليونسكو بأن "جهل الشعوب بعضها لبعض (كان) مصدر" الحروب. وترمي مجموعة الأنشطة في مجال التاريخ إلى مكافحة النماذج النمطية والمنحازة وإلى تعزيز التفاهم.
ويُذكر أيضاً من بين المبادرات المؤثرة والرائدة الإعلان العالمي بشأن المجين البشري وحقوق الإنسان 1977 (أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1998)، والذي جاء نتيجة التأمل في مفهوم الكرامة الإنسانية في إطار التكنولوجيات البيولوجية وعلم الوراثة.
التعليم أولاً
تضمنت باكورة أعمال اليونسكو في مجال التعليم مشروعاً رائداً للتعليم الأساسي استُهل في وادي ماربيال بهاييتي في عام 1947. وفي عام 1948، أوصت اليونسكو بأن تجعل الدول الأعضاء التعليم الابتدائي مجانياً وإلزامياً للجميع. وفي عام 1990، استهل المؤتمر العالمي للتعليم للجميع في جومتيين (تايلاند) حركة عالمية من أجل توفير التعليم الأساسي لجميع الأطفال والشباب والكبار. وبعد هذا المؤتمر بعشر سنوات، قاد المنتدى العالمي للتربية (عام 2000) في داكار (السنغال) الدول الأعضاء إلى الالتزام بتعميم التعليم الأساسي للجميع بحلول عام 2015.
وأطلق الأمين العام للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2012 "مبادرة التعليم أولاً العالمية" التي تستمر خمسة أعوام من أجل تسريع وتيرة التقدم في تحقيق أهداف التعليم للجميع والغايات المرتبطة بالتعليم ضمن الأهداف الإنمائية للألفية. وتضطلع اليونسكو بدور الأمانة لهذه المبادرة.
وينسجم منح جائزة نوبل للسلام لعام 2014 لكل من ملاله يوسفزاي وكايلاش ساتيارتي تماماً مع ولاية اليونسكو ومع الجهود التي تبذلها منذ إنشائها في عام 1945 بغية تعزيز التعليم وحقوق الإنسان. وقد كرم المجلس التنفيذي ملاله في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2012، وصرحت المديرة العامة، السيدة إيرينا بوكوفا، قائلة: "إن منع أي فتاة في العالم وفي أي وقت، من الذهاب إلى المدرسة يُعد اعتداء على جميع الفتيات، وعلى الحق في التعلّم، وعلى حق الإنسان في أن يعيش حياته بكل جوانبها، وهذا أمر غير مقبول".
الثقافة
كانت الاتفاقية العالمية لحقوق المؤلف (1952) من بين أنشطة اليونسكو الأولى في مجال الثقافة، والتي كان الغرض منها حماية الفنان المبدع، وبالتالي تنوع الثقافات أيضاً.
واكتسب عمل المنظمة في مجال التراث الثقافي شهرة مع حملة النوبة التي بدأت في عام 1960. وكان الغرض منها نقل معبد أبو سمبل الكبير للحيلولة دون انغماره بمياه النيل عند بناء سد أسوان. وفي أثناء هذه الحملة التي استغرقت 20 عاماً، نُقل 22 معلماً وأثراً معمارياً من مكانه. وكانت تلك الحملة أولى الحملات وأوسعها نطاقاً في سلسلة حملات أخرى مثل حملة بوروبودور في إندونيسيا. وأفضى عمل المنظمة في مجال التراث إلى اعتماد اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي في عام 1972. وأنشئت لجنة التراث العالمي في عام 1976، وأدرجت أولى المواقع في قائمة التراث العالمي في عام 1978. ومنذ ذلك الوقت، اعتمدت الدول الأعضاء في اليونسكو وثائق تقنينية مهمة في مجال التراث والتنوع الثقافي، ففي عام 2003، اعتمدت (اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي)، وفي عام 2005، اعتمدت (اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي).
وأنشئ برنامج ذاكرة العالم في عام 1992 بغية صون التراث الوثائقي المعرض للخطر، وقد وصف بأنه "الذاكرة الجماعية لشعوب العالم". وبعد تنظيم مؤتمر عالمي في فانكوفر في عام 2012، أكد البرنامج بشدة على أهمية ضمان حفظ ذاكرة العالم الرقمية والانتفاع بها لأجل طويل.
وكانت اليونسكو السباقة في طرح ا فكرة أن الثقافة هي مكون أساسي من مكونات التنمية. ومن بين المعالم الرئيسية لهذا المسار، انعقاد المؤتمر العالمي المعني بالسياسات الثقافية، موندياكولت (Mondiacult)، في مكسيكو، عام 1982، والعمل الذي قامت به اللجنة العالمية المعنية بالثقافة والتنمية ("التنوع الإنساني المبدع"، 1996). وقد اقترحت اليونسكو إدراج الثقافة في جدول أعمال التنمية لما بعد عام 2015، وقامت بالإعداد له.
العلوم الطبيعية
يُعد كلّ من برمجة المناطق الجافة 1948-1966 والتحضير للعقد الهيدرولوجي الدولي الذي بدأ في 1 كانون الثاني/يناير 1965 من بين الأمثلة على مشاريع اليونسكو الرئيسية الأولى في مجال العلوم الطبيعية. وفي كانون الأول/ديسمبر 1951، أفضى الاجتماع الدولي الحكومي الذي عقدته اليونسكو إلى إنشاء المجلس الأوروبي للبحوث النووية في عام 1954.
ونظمت اليونسكو في عام 1968، المؤتمر الدولي الحكومي الأول الرامي إلى التوفيق بين البيئة والتنمية، وهذه المسألة هي مشكلة لا يزال يتناولها إلى اليوم ميدان التنمية المستدامة. وأهم ما نتج عن ذلك المؤتمر، استحداث برنامج اليونسكو الإنسان والمحيط الحيوي (ماب).
وقد بادر السيد بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، في تشرين الأول/أكتوبر 2013 بإنشاء المجلس الاستشاري العلمي، ويسدي المجلس الجديد النصح إلى منظمات الأمم المتحدة بشأن العلوم والتكنولوجيا والابتكار من أجل تحقيق التنمية المستدامة، وتستضيف اليونسكو أمانة هذا المجلس.
الاتصالات والمعلومات
في مجال الاتصالات، كانت حرية تداول المعلومات أولوية بالنسبة إلى اليونسكو منذ بداياتها. وفي السنوات التي عقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، ركزت الجهود المبذولة على إعادة البناء و تحديد الاحتياجات إلى وسائل الاتصال الجماهيرية في أنحاء العالم كافة، وقد بدأت اليونسكو بتنظيم دورات تدريبية وتعليمية للصحفيين في خمسينات القرن الماضي. وتلبية للدعوات إلى إحداث نظام عالمي جديد للمعلومات والاتصالات التي أُطلقت في أواخر السبعينات، أنشأت اليونسكو اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الاتصال التي صدر تقريرها في عام 1980 المعنون: "أصوات عديدة وعالم واحد". ومتابعة لهذا التقرير، أنشأت اليونسكو برنامج مجتمع المعلومات للجميع وبرنامج نحو مجتمعات المعرفة تمهيداً لانعقاد مؤتمر القمة العالمي لمجتمع المعلومات في عام 2003 (جنيف) وفي عام 2005 (تونس العاصمة).
وأسفر مؤتمر القمة العالمي لمجتمع المعلومات عن إنشاء منتدى "حوكمة الإنترنت" المتعدد الجهات المعنية في عام 2006، الذي عززت اليونسكو من خلاله فكرة بناء آليات حوكمة الإنترنت على مبادئ الانفتاح والخصوصية والتنوع، وأن تتضمن انتفاع الجميع بالإنترنت، وتحقيق التوافقية التشغيلية، وحرية التعبير، واتخاذ تدابير لمقاومة أي محاولة لمراقبة المحتوى.
القوة المرنة
استخدمت اليونسكو مجموعة كبيرة من الأدوات كوسائل لتحقيق الأهداف التي نص عليها الميثاق التأسيسي، ومن بين هذه الأدوات الوثائق التقنينية، والمؤتمرات واجتماعات الخبراء، والبعثات والمشروعات. واليونسكو هي المنظمة الوحيدة في منظومة الأمم المتحدة التي أنشأت لجاناً وأندية وطنية في الدول الأعضاء كوسيلة للتواصل مع المجتمع المدني. كما أنشأت اليونسكو في سنواتها الأولى العديد من المنظمات غير الحكومية، التي شاركت في تطوير البرامج وتنفيذها. وكان برنامج المدارس المنتسبة أحد الشبكات المؤثرة المتعددة التي تجمع بين الأطفال والمدرسين والمواطنين من بلدان وثقافات مختلفة.
وقد نجحت اليونسكو في الجمع بين العلماء والمهنيين والناشطين والشباب من جميع أنحاء العالم، حتى في فترة الحرب الباردة وفي أثناء فترة إنهاء الاستعمار. وكان ترويج الحوار بين الثقافات والحضارات واحداً من بين التحديات الرئيسية التي واجهتها اليونسكو.
وكانت اليونسكو رائدة في التأثير من خلال الأفكار التي طرحتها، أو التي شاركت بحيوية في تطويرها ونشرها. وكان لبعض هذه الأفكار تأثير أساسي مثل حرية التعبير، والتراث العالمي الثقافي والطبيعي، والتنوع البيولوجي (التنمية المستدامة)، وتنوع أشكال التعبير الثقافي، والتعلّم مدى الحياة، والتراث غير المادي، ودور العلوم في المجتمع، وأخلاقيات البيولوجيا، وغيرها. واستخدمت مفاهيم اليونسكو الأعمّ ونوقشت على نطاق واسع، ومنها مفهوم ثقافة السلام (الذي أطلق في ياموسوكرو، في كوت ديفوار عام 1989)، والنزعة الإنسانية الجديدة التي اقترحتها المديرة العامة في عام 2009 لتكون مفهوماً شاملاً لليونسكو.
وجميع هذه الأفكار هي مستويات متباينة من التعبير عن المثل والقيم والأهداف التي وردت في الميثاق التأسيسي لليونسكو، وهي تتماشى مع الظروف الراهنة وتكتسي أهمية أكثر من أي وقت مضى.